النفط واستقرار العراق
وليد خدوري
شكلت تظاهرات البصرة في العراق خلال الشهرين الماضيين، حدثاً مفصلياً في فترة ما بعد الغزو عام 2003، إذ تركزت الشعارات ضد غياب الخدمات الأساسية، من توفر مياه صالحة للشرب واستمرار انقطاع التيار الكهربائي. وفي محافظة تضم ما لا يقل عن 85 في المئة من الاحتياط النفطي للبلاد، والنسبة ذاتها تقريباً من الإنتاج النفطي، هيمنت الأحزاب الدينية على مجلس محافظة البصرة ومقاليد الحكم، كبقية مجالس المحافظات الجنوبية في بغداد، طوال 15 سنة، إضافة إلى أن وزير النفط خلال فترة التظاهرات عبدالجبار اللعيبي، من أبناء البصرة، التي تعتبر المرفأ الرئيس للعراق، وترويها مياه شط العرب. وعلى رغم كل ذلك، أُهملت البصرة من قبل الحكومة الاتحادية، وشاع فيها الفساد والميليشيات، كما الحال في المناطق الأخرى.
وتوقعت السلطات البترولية العراقية قبل 10 سنين تقريباً، لتبرير إعادة شركات النفط العالمية لتطوير الحقول النفطية، أن ترتفع الطاقة الإنتاجية إلى نحو 12 مليون برميل يومياً بحلول الربع الأخير من العقد الحالي. وارتفعت الطاقة فعلاً، لتراوح حالياً بين 4.5 مليون برميل يومياً و5 ملايين، أي ضعف ما كانت عليه قبل عودة الشركات الدولية. لكن السؤال الأبرز، كيف ينفَق العائد النفطي، وما مدى التطور الاقتصادي للعراق في ظل هذه الطاقة المتزايدة؟ لقد تدهور الاقتصاد خلال هذا العقد، وضاعت أو سُرقت مئات بلايين الدولارات. وكما ذكر رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، أنه استلم الحكم وخزانة الدولة خالية لا تزيد على 3 بلايين دولار، والدُفعات المستحقة لشركات النفط الأجنبية متأخرة.
واستشرى الفساد في ظل غياب الشفافية والمحاسبة القانونية، كما افتقدت البلاد منهجاً حكومياً واضحاً مع هجرة آلاف المهنيين والخبراء العراقيين بسبب سوء الأحوال المعيشية والأمنية، كما سيطر قادة الأحزاب الدينية على مقاليد الحكم، وهمشوا الخبراء والمهنيين من أنصارهم، ما زاد الطين بلة. وتستمر هذه الأحزاب في مناكفة حكومة عادل السيد عبد المهدي الإصلاحية لردعها عن تنمية الاقتصاد وإعادة الاستقرار إلى البلاد، على رغم إخفاق هذه الأحزاب الفاضح.
وتكمن أهمية الطاقة الإنتاجية في مدى إمكان زيادتها في المستقبل القريب، وهذا متوقع في العراق في ظل برامج تطوير الحقول المكتشفة، وفي ظل معدلات الأسعار العالمية. وبما أن حكومة المهدي أعطت الأولوية في منهجها الحكومي لتنمية الاقتصاد وإعادة الإعمار، تشير المعلومات إلى أن من الممكن زيادة الطاقة الإنتاجية إلى أكثر من 5 ملايين برميل يومياً. ويشير جيولوجيون عراقيون إلى إمكان زيادة الطاقة الإنتاجية من خلال تحديدها في الطبقات الجيولوجية في الحقول المكتشفة، واستغلال الطاقات الكامنة في عشرات المكامن والحقول المعروفة وغير المطورة، ناهيك بالاستغلال الأمثل للغاز المصاحب، بدلاً من حرق معظمه والتسبب في أضرار بيئية وخسائر ببلايين الدولارات سنوياً، وتطوير الطاقات المستدامة من الشمسية والرياح.
طرح المهدي منهاجاً وافياً لتطوير الطاقة الإنتاجية على المديين القصير والمتوسط. والمطلوب في هذا المجال، وبعد معاناة الشعب من انقطاع الطاقة وصعوبة إيصالها إلى المستهلكين، إيلاء الأهمية اللازمة لإيصال الطاقة الوافية لتشييد الصناعات الجديدة وإعادة الإعمار وبناء اقتصاد حديث. وهذه أمور ممكنة في العراق الذي يتمتع بإمكانات هائلة وثروات طبيعية. وفي هذه الحال، ستحتاج البلاد إلى خبرات المبتعثين وتبني محاولات جادة لإعادتهم إلى العراق للاستفادة من دراساتهم العليا وخبراتهم الدولية. وتميزت هذه الفئة من العراقيين بالتفوق العلمي واختيارهم البعثات الحكومية في أرقى الجامعات العالمية، كما اختيرت اختصاصاتهم على أساس حاجات البلاد المستقبلية.
ويتم بناء الاقتصاد الوطني من خلال جهود المهنيين ومن عائدات النفط والقضاء على الفساد. ومر العراق بتجارب عدة تشمل هذه المعطيات الثلاث، فهناك تجربة مجلس الإعمار في خمسينات القرن الماضي، حيث خُصّصت بداية 100 في المئة من العائدات النفطية لإنشاء بنية تحتية من سدود وطرق سريعة ومدارس ومستشفيات. ولا تزال الحكومات العراقية تستعمل بعض مخططات هذه المشروعات حتى اليوم. وترأس مجلس الإعمار رئيس الوزراء وبعضوية وزراء المال والأشغال وخبراء دوليين وعراقيين، لكن ملف الفساد غاب عن تجربة المجلس، ولا يكاد يذكر في معظم الأدبيات المنشورة عنه. وهناك تجربة الأحزاب الدينية التي أهملت إدارة الدولة وأشاعت الفساد وهمّشت دور المهنيين العراقيين. ومن ثم، كانت النكبات التي حلت في العراق، من احتلال الموصل وفقدان البصرة للمياه الصالحة للشرب وانقطاع التيار الكهربائي في شكل متواصل.
ومن الواضح أن هناك تحديات أمام كلتا التجربتين، فمن الصعب على أي حكومة عراقية اليوم تخصيص 100 في المئة من العائد النفطي للاستثمار في الإعمار وتشييد البنية التحتية، إذ يوجد تضخم في الجهاز الحكومي يقدر بملايين الموظفين، فلا يمكن تقليص معاشات التقاعد وعدد هؤلاء الموظفين بسرعة، نظراً إلى اعتماد ملايين العائلات على هذا الدخل الحكومي. ولكن، يتوجب إعادة النظر تدرّجاً في السياسة التوظيفية في القطاع العام، وفي الوقت ذاته التخطيط لإعادة الإعمار، ما يعني أهمية استمرار الاعتماد على العائد النفطي والمهنيين. وتدل تجربة الأحزاب الدينية وسلوكها على استحالة استقرار البلاد في ظل سياسة التوظيف الحكومية، كما أن تدهور أسعار النفط بين عامي 2014 و2016 منع الحكومة من دفع الرواتب وأثبت فشل سياسة التعيينات عند تقلب الأسواق والأسعار.
وأخيراً، أدى تفشي الفساد إلى ضياع أموال الدولة من دون محاسبة، وضياع فرص إعمار العراق وتدهور سمعته. وهيمنت الأحزاب الدينية على مقاليد الحكم والتصرف من دون مسؤولية، كما أظهرت التجارب، تعتبر وصفة لتدمير العراق الحديث كما عرفناه، لذلك يجب إنهاء هذه التجربة قبل أن تقضي على ما تبقى. ولكن، يتوجب في الوقت ذاته توقع محاولات الرمق الأخير لوضع حد لها، لذلك فإن العراق اليوم أمام خيارين واضحين.
“الحياة اللندنية”