اراء و أفكـار

تفكيك العُرى

مئة عام مرت على نهاية الحرب العالمية الأولى وتصفية العدائيات وتوقيع اتفاقيات السلام، وانفتاح الطريق أمام السياسيين العقلاء والحكماء في العالم، من أجل تدشين عصر جديد يسوده السلام ويبتكر آليات مؤسسية وقانونية تجمع دول العالم، وتضمن استدامة الاستقرار وصيانة السلم الدولي، وقد تجسد ذلك عملياً في عصبة الأمم.
لكن «العصبة» التي أرادها المنتصرون في الحرب، أداة لتكريس نصرهم وإسباغ شرعية دولية على مصالحهم الخاصة، والالتفاف على القوانين الطبيعية والإنسانية، لم تنجح في أن تكون صمام أمان يمنع نشوب حرب عالمية ثانية واسعة النطاق، وأشد شراسة وأكثر ضحايا بعد عقدين من الزمان.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فبعد مرور سبعة عقود على إنشاء منظمة الأمم المتحدة، ورسوخ النظام الدولي مؤسسات وقوانين؛ ها هي ملامح ردة قاسية تبدو في الأفق تقودها الولايات المتحدة نفسها، التي تبنّت محادثات سان فرانسيسكو، التي تبلور عنها قيام منظمة أممية لحفظ السلم والأمن الدوليين، واستضافت مقر المنظمة في نيويورك.
الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ولما لم تكمل العامين، بادرت إلى مواقف وأفعال متلاحقة، مؤداها الخروج على اتفاقات دولية، ونقض مواثيق ومعاهدات، والانقلاب على مواقف رعتها إدارات البيت الأبيض السابقة؛ بل يبدو أن إدارة ترامب التي ترفع شعار «أمريكا أولاً»، تريد أن تنقض القانون الدولي وتُفكّك عُرى المؤسسات الدولية، وتنكث بمعاهدات الحد من التسلح، من أجل أن تكون الرأسمالية والشركات العملاقة لصنع الأسلحة في حل من أي اتفاق؛ متحررة من أي قيد قانوني يمنعها من تعظيم أرباحها، ولو كان ذلك على حساب الأمن والسلم الدوليين، وسلامة كوكب الأرض وصيانة البشرية من الانقراض، بأسلحة الدمار الشامل التي لا تُبقي ولا تذر.
خروج الولايات المتحدة من معاهدات ثنائية ودولية للحد من التسلح والتخلص من مخزونات أسلحة الدمار الشامل، وإعلانها العزم على مراجعة معاهدات استراتيجية، والانسحاب من أخرى، مع استمرار امتناعها عن المصادقة على عدد آخر من المعاهدات، أمر كارثي يُنذر بشيوع الفوضى في العالم، فالإدارة الأمريكية، تُعلي من غريزتها في الثراء والربح، تحت غطاء بعنوان: «فلنُعِد إلى أمريكا عظمتها».
والعظمة ليست مجرد ثراء أو قوة عسكرية، ولكنها قيم ومبادئ. إذا كان ما أشرنا إليه يتعلق بالسياسة الدولية والعالم، فإدارة الرأسمالية لم تسلم منها أمريكا نفسها، فقد كانت آخر «إنجازات» هذه الإدارة، الانسحاب من خطة حماية الحيتان والسلاحف، والكائنات البحرية الأخرى، التي قد تُقتل عرضاً بسبب شباك الصيد الخيشومية.
وبررت الإدارة الأمريكية انسحابها، بأن حجم صناعة الصيد البحري والأرباح المتأتية منه، تفوق المنافع البيئية؛ لذا ليس من الغريب أن تجد الرأسمالية مبررات لأي قرار أو موقف تتخذه، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة والقانون والعدالة والمبادئ والإنسانية.

“الخليج”

مقالات ذات صلة