القدس ليست للمتاجرة
لا شك أن التقارير الواردة من أستراليا عن تفكيرها في نقل سفارتها في «إسرائيل» إلى القدس المحتلة، تشكل صدمة للفلسطينيين والعالمين العربي والإسلامي، لأنها خطوة مفاجئة وغير محسوبة ودواعيها غير مقنعة. وإذا كان من ردٍّ بليغ عليها فهو ما قالته صحيفة «سيدني مورنينج هيرالد» حين وصفت هذا التغير بأنه «مجرد من المبادئ».
نعم، هو تغيير غير مفهوم وانقلاب في موقف أسترالي كان قد انتقد، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واعتبرها خطوة «لا تخدم السلام»، وهو موقف تم الثناء عليه في حينه. أما اليوم فيبدو أن أمراً ما جعل رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون يتحدث عن دراسة نقل سفارته إلى القدس، ليتبين أن الطرح جاء ضمن حملة في انتخابات جزئية في سيدني، ويتبين أن هذا الخطاب موجه أساساً إلى الناخبين اليهود في ونتوورث، حيث يأمل تحالف يمين الوسط، الذي ينتمي إليه موريسون، الفوز بمقعد شاغر في البرلمان عن هذه المنطقة. وإذا كان البعض يرى أن هذا الموقف ربما يجري تبريره بالدعاية الانتخابية، إلا أن المنطق يدين هذا التصرف، لأنه يزج بقضية حساسة وذات أبعاد دولية خطيرة في صراع سياسي بعيد كل البعد عن الالتزام بمبادئ القانون الدولي والتمسك بقيم السلام الدولي.
من الناحية السياسية، سقط رئيس الوزراء الأسترالي في خطأ كبير قد يكلف بلاده ثمناً باهظاً، فالمسألة لا تتعلق بنقل سفارته لتؤنس السفارة الأمريكية المعزولة في القدس، وإنما تتعلق بجعل علاقات بلاده مع العالمين العربي والإسلامي في زاوية قاتمة، ولن تفيده في ذلك لا «إسرائيل» ولا الولايات المتحدة. وقبل أن يتدارك موريسون خطأه، جاءه الرد من إندونيسيا، أكبر بلد إسلامي، حين حذرته وزيرة خارجيتها ريتنو مارسودي من زعزعة الاستقرار العالمي، كما لمحت إلى نسف اتفاق تجاري ضخم بين البلدين. ومعنى هذا الكلام أن أستراليا ستقامر بمصالحها الواسعة جداً مع أكثر من 50 دولة مسلمة في العالم، لأن قضية القدس ليست مجرد ملف سياسي يمكن حله بين طرفين، بل هي واحدة من الخطوط الحمراء لدى المسلمين، ومن يقترب منها يرتكب جريمة في حق شعب مسلوب الأرض، وتفترض القيم والأخلاق الإنسانية نصرته لا الاصطفاف مع المعتدي، وإذا كان هناك من يعتقد أن نقل السفارة الأمريكية مَرَّ بلا محاسبة فهو واهم، فالحساب سيأتي في موعده.
عندما قرر دونالد ترامب نقل سفارته، جرت محاولات لنقل سفارات أخرى، ومنها باراجواي، ولكن هذه الدولة تداركت أمرها لاحقاً وأعادت بعثتها إلى «تل أبيب»، وتم ذلك بعد ضغوط عربية وإسلامية قوية. أما إذا فعلتها أستراليا، فستكون أشبه بمن ينفذ عملية انتحارية، وستكون خسائرها من هذه الفعلة أكبر من قدرتها على التحمل، لأن القضية الفلسطينية، وفي القلب منها القدس، ليست قضية للمتاجرة أو أداة لمداعبة الناخبين، بل هي أقدس من ذلك بكثير، لأنها قضية إنسانية ومظلمة تاريخية يجب التعاطي معها بكل ما تستحق من مشاعر وقناعات بقيم الحق والعدل.
“الخليج”