البيئة والوعي الجماعي العراقي بعيدا عن ساسة العشرين في المئة
في الوقت الذي يستمر فيه ساسة «العراق الجديد» بالصراع على المناصب وكيفية الاستيلاء على أكبر حصة من اموال النفط وعقود الاعمار، يعيش العراقيون سجناء اللحظة. يكاد يكون ارتباطهم بالمستقبل سرابا لولا حرصهم على البقاء احياء من اجل أطفالهم.
ومن يتابع صرخات الاستنجاد والاستغاثة التي يطلقها الناس، يوميا، عبر أجهزة الاعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي، سيتساءل عن البلد الذي يقطنونه، وعن الحكومة التي تدير شؤونهم. وسيخطئ من يظن انهم من سكان بلد مدقع الفقر يعاني من قحط الموارد الطبيعية. وسيكون مصيبا من يعتقد ان أولياء الامر فاسدون حتى النخاع وان حياة أبناء الشعب لا قيمة لها لديهم، وانهم يدركون جيدا مدى الخراب العمراني والبيئوي والبشري الذي ألحقوه بالعراق، لذلك أبقى كل واحد منهم أبناءه وكل افراد عائلته خارج «الوطن»، حرصا عليهم، لئلا يمسهم ما يصيب بقية الناس من أمراض ومخاطر.
فقد بات البلد بفضلهم وفضل آبائهم من الغزاة، بؤرة للتلوث، بأنواعه، والامراض والاوبئة، بحيث لم تعد الصفات المستخدمة، عادة، دوليا، مثل «أزمة» لوصف التدهور البيئي، تنطبق عليه. فما يتعرض له العراق من نقص في مستوى المياه والتصحر « كارثة « سيؤدي الى ان تصبح بلاد ما بين النهرين صفحة منسية من التاريخ، حسب منظمة اليونسكو. وهي كارثة يحذر منها خبراء عراقيون من بينهم د. كاظم المقدادي ود. هيثم الشيباني ود. محمد العبيدي. كلهم خبراء بيئة يواصلون رصد الوضع البيئي والكتابة عنه توضيحا وتوعية وتحذيرا، بالإضافة الى تقديم المقترحات الهادفة الى الجهات الرسمية، على أمل توفر النية الصادقة للإصغاء والأخذ بها.
تتسم الصورة التي يوضحها الخبراء بتفاصيل مخيفة. أبرزها شحة المياه وتلوثها والمواد المشعة. شحة المياه أسبابها عديدة، تبدأ بهيمنة إيران وتركيا على مصادرها سواء عن طريق بناء السدود او تحويل مجرى الأنهار. أدت الشحة الى العواصف الترابية وما تسببه من امراض تصيب الجهاز التنفسي. كما أدت الى زيادة سرعة التصحر ووصولها نسبة خمسة بالمئة سنويا. وهي نسبة خطيرة تؤدي انعكاساتها الى اعاقة الزراعة والهجرة وتغيير أنماط العيش وتزايد نسب البطالة. تقع مسؤولية هذا الجانب من الكارثة البيئية على عاتق الحكومة التي لم يكن همها، على مدى سنوات حكمها منذ عام 2003 وحتى اليوم، وضع خطة استراتيجية لإيجاد حل لمشكلة المياه مع الدول المجاورة. وهي مشكلة بجوهرها، سياسية قانونية. وكان بإمكان الحكومة إيجاد حل لها وفق القانون الدولي.
الجانب الآخر المهمل هو اعمار البنية التحتية أي محطات تحلية المياه ومجاري الصرف الصحي، وهي من أهم ما تلتفت اليه الدول، عادة، إدامة وتوسيعا حسب زيادة السكان السنوية. وقد دمر بعضها عام 1991، ونفوس العراق وقتها نصف ما هو عليه اليوم، وتم إصلاحها وتشغيلها أثناء الحصار حتى 2003. حيث لا يوجد سوى 30 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي في العراق، تعمل دون حدود الكفاءة المقبولة. بعض المحافظات لا توجد بها محطات. أدى نقص معالجة النفايات والرمي المباشر في الأنهار، إلى مستوى عال من التلوث، مؤديا الى انتشار الأمراض التي تنقلها المياه. وقد أكدت إدارة صحة البصرة أن مياه الشرب في أكثر من 70 في المائة من المناطق ملوثة وغير صالحة للاستهلاك البشري. ورصد البرنامج الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية 60 وباءً في مناطق مختلفة من البلد. فهل يستغرب العالم حين يثور أهل البصرة ضد كل ما يمثل النظام الذي لم يفعل شيئا إيجابيا لهم على مدى 16 عاما تقريبا بل وجردهم، وهم أهل المدينة الغنية بنفطها وتاريخها الحضاري، من كرامتهم، مختزلا إياهم الى استجداء ماء الشرب وإصابة الآلاف منهم بالتسمم والاسهال؟ ارقام المصابين مذهلة. تجاوزت الأسبوع الماضي المائة ألف، حسب دائرة الصحة في البصرة.
ولاتزال المشاكل على حالها، اليوم، على الرغم من المظاهرات والاعتصامات وصرخات المواطنين المطالبة بأبسط حقوق العيش الكريم. وما يزيد الطين بلة هو تبادل الاتهامات بين الوزراء والمسؤولين في الحكومة كمحاولة لتغطية الفساد، وتبييض الوجوه من المسؤولية. فمسؤولو البيئة مثلا يتهمون وزارتي النفط والكهرباء بتلويث البيئة بسبب عدم معالجة مخلفاتهما، حيث تصرف بشكل مباشر الى مياه الأنهر، بينما ترمي الوزارتان المسؤولية على مجالس المحافظات وعدم توفر الميزانية.. الى آخر ذلك من المهاترات التي تهدف الى اشغال المواطنين بدلا من إيجاد الحلول.
وإذا كان المحتل الأمريكي ـ البريطاني هو المسؤول الأول عن التلوث الاشعاعي والكيميائي، سواء عن طريق استخدام اليورانيوم المنضب في قصفه واستهدافه العراق في التسعينيات ثم عام 2003، فأن صمت المسؤولين العراقيين، الذين اشتركوا معه بذريعة « التحرير»، يحملهم المسؤولية أيضا. خاصة وانهم ساهموا بنشر التقارير وإطلاق التصريحات المضللة عن عدم مضار الاشعاع، بالإضافة الى عدم ممارستهم صلاحياتهم لإجبار دول الاحتلال على تحمل مسؤولياتهم القانونية وتنظيف المناطق المنكوبة، بينما تدل كل البحوث والتقارير العلمية الدولية والعراقية المستقلة على تأثير الاشعاع المرعب الذي وصفه عدد من العلماء بأنه يفوق التلوث الإشعاعي الناتج عن قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، والمتبدي، عمليا، بزيادة حالات الإصابة بأمراض السرطان والتشوهات الخلقية للأجنة، والذي يخشى انتقال مضاره جينيا، واستمرار آثاره على مدى أجيال.
ما هو الحل؟ كل الحلول مرتبطة بوضع حد للفساد المالي والإداري والاخلاقي. الفساد المعشش في عقول وأجساد المسؤولين والذي انعكس على حياة الناس بشكل مصائب تبدو وكأن من المستحيل إيجاد حل لها. فما من مشروع، مهما كان حجمه وأهميته الا وامتدت اليه أصابع السراق من اعلى منصب بالحكومة الى أصغره، لتحوله الى هيكل فارغ من الادعاءات والحشو اللفظي، ومشاريع توفير المياه الصاحة للشرب وبناء محطات التصريف وصيانة المجاري والتزود بالكهرباء، واحدة من الأساسيات المهملة تماما. وقد اتخذ المواطنون، في مقاطعتهم الانتخابات ومظاهرات البصرة وبقية المدن، خطوة ايجابية نحو الارتقاء بالوعي الجماعي من المناشدة والترجي الى أخذ زمام المبادرة. وهي خطوة، إذا ما تلتها مبادرات مجتمعية وطنية أخرى، ستؤدي بالنتيجة الى التغيير السياسي الحقيقي وليس تدوير الوجوه الفاسدة، بنسبة انتخاب عشرين بالمئة، كما يجري الآن.
٭ كاتبة من العراق
“القدس العربي”