المرجعية السياسية الكردية بعد انتخاب برهم صالح
كان انتخاب برهم صالح رئيسا لجمهورية العراق هو أول إنتخاب ديمقراطي حقيقي يجري في العراق بصورة ديمقراطية بعيدا عن التوافقات السياسية التي أوصلت حال العراق منذ سقوط النظام السابق الى ماهو عليه من الفساد وفشل الديمقراطية في البلاد. فلأول مرة ينتخب النائب العراقي بإرادته الحرة من يتوسم فيه الخير لبلده دون أن تؤثر عليه التوافقات أو المحاصصات السياسية ، ودون أن يكون لرئيس الكتلة الكلمة الفصل وتغليب مصالحه الحزبية أو الشخصية على المصلحة العامة، ولذلك فإن إنتخاب برهم صالح كان نقطة تحول في العملية السياسية بالعراق نحو الديمقراطية الحقيقية .
ان انتخاب برهم صالح رئيسا للجمهورية غير الكثير من المعادلات السياسية ليس في العراق فحسب، بل حتى داخل البيت الكردي ، فلم تعد مرجعية القرار السياسي بكردستان محصورة فقط بيد زعامة واحدة يمثلها مسعود البرزاني ، بدليل أن البرزاني حاول بإستماتة إنجاح مرشحه للرئاسة لكنه أخفق في تحقيق ذلك . ثم أن إنتخاب برهم بتلك الأغلبية الساحقة كان مؤشرا على أنه بات هو من يمثل المكون الكردي في المركز، وأنه أصبح المرجع الأساسي للقرار الكردي كما كانت المرجعية في السابق بيد الرئيس الراحل جلال طالباني ومسعود البرزاني، وبما أن البرزاني خسر تأثيره على القرار السياسي العراقي في انتخابات الرئاسة الأخيرة ، فإن برهم صالح الفائز بثقة نواب البرلمان أصبح هو من يمثل الكرد في المركز بإعتباره يحظى بقبول ودعم نواب السلطة التشريعية ، وكذلك دعم الشارع العراقي عموما الذي بدا عليه الارتياح لانتخابه رئيسا للجمهورية.
هناك عدة أسباب أدت الى خفوت نجم مسعود البرزاني وصعود نجم برهم صالح بالمقابل ، ونحاول في هذا المقال أن نسلط الضوء على بعض الخفايا التي رافقت عملية إنتخاب رئيس الجمهورية وحصره بين مرشح الاتحاد الوطني وهو الدكتور برهم صالح، ومرشح مسعود البرزاني الدكتور فؤاد حسين .
ففي بيان نشره فؤاد حسين بتاريخ 5 أكتوبر بعد خسارته المنافسة، أشار الى أنه ” كان هناك إتفاقا عقد بين نيجيرفان البرزاني وبافل طالباني لدعم ترشيحه للرئاسة ، ولكن الذي حصل في الغرف المغقلة غير صفقة الساعات الأخيرة ورجح كفة برهم صالح “.ويقول فؤاد حسين “سعدنا كثيراً عندما توصل الأخ نيجيرفان البرزاني والسيد بافل طالباني الى اتفاق ثنائي يقضي بأن يقدما مرشحا واحدا لرئاسة العراق الى البرلمان العراقي، وقد جرى تتويج هذا الاتفاق قبل حوالي ساعة من عقد جلسة البرلمان”. إلا ان وفد ” الديمقراطي فوجئ بأن الطرف الآخر لم يسحب مرشحه من التنافس على كرسي الرئاسة ودخل إلى المنافسة الانتخابية، لذلك ” قررنا الانسحاب من الترشح “.
وتقول المصادر السياسية أن وفد الحزب الديمقراطي برئاسة نيجيرفان البرزاني تمكن بالفعل من حشد دعم القوى السياسية العراقية لصالح مرشحهم ، وكذلك ورود العديد من الرسائل السياسية والدبلوماسية الأمريكية تؤكد دعمها لمرشح البرزاني . أضف الى ذلك الدور الذي قام به قائد فيلق القدس قاسم سليماني لدعم ترشيح فؤاد حسين، حيث وصل الأمر بحسب بعض المصادر الى تهديد الاتحاد الوطني بإجراءات سياسية وإقتصادية اذا أصر على مرشحه ، رغم أن الاتحاد الوطني هو حليف ستراتيجي لايران !.
من جانبه وحسب نفس المصادر فإن بريت ماككورك ممثل الرئيس الأمريكي لحرب داعش قد زار وفد الاتحاد الوطني في بغداد ونقل له وجهة نظر الخارجية الأمريكية التي تدعو الى أنه من الأفضل الاتفاق على مرشح واحد. ثم جاءت مكالمة هاتفية في الوقت ذاته من وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو من أجل اقناع الوفد بسحب مرشحه ، ولكن كل ذلك لم يغير شيئا من الموقف. وبالمقابل كانت هناك رسائل من القادة العسكريين الأمريكيين تشجع فريق (الاتحاد) على دعم مرشحهم وعدم التخلي عنه. وكان نيجيرفان البرزاني قد ركز محادثاته مع الكتل السياسية والقيادات الدينية بين بغداد والنجف، أما فريق (الاتحاد) فقد ركز لقاءاته بالقادة العراقيين والمرجعيات الشيعية .
أما في الجانب العراقي فقد كانت هناك اجتماعات مكثفة تجري بين رؤساء الكتل النيابية لتحالف (البناء) وأعضائها تدعو الكرد الى الاتفاق على مرشح واحد ، وإلا فإنهم سيصوتون لصالح مرشح البرزاني، ولكن مع ذلك فشل رؤساء الكتل السياسية من إقناع نوابهم بالتصويت لصالح الديمقراطي . وقبيل الدخول الى قاعة البرلمان ، عقد الاجتماع الحاسم والأخير بين نيجيرفان البرزاني وبافل طالباني. وكانت الأمور تتجه نحو إنتخاب مرشح الديمقراطي حسب إتفاق تم التوصل إليه بين الحزب الديمقراطي وبين كتلة نوري المالكي وهادي العامري وخميس الخنجر وإيران . حتى أن نيجيرفان البرزاني أكد بأن الأمر بات محسوما لصالح مرشحهم وأن مرشح الاتحاد الوطني سيصيبه فشل ذريع لامحالة . وأشار البرزاني في الإجتماع الى رسالة صوتية للنائب عن كتلة خميس الخنجر أبو مازن يتحدث فيها عن الإتفاق مع (الديمقراطي). ويحث أبومازن في رسالته الصوتية أعضاء تحالف المحور الوطني الى الحضور في قاعة التحالف في البرلمان العراقي لتدارس انتخاب رئيس العراق. إضافة إلى ذلك، هناك تسريبات تتحدث عن وضع البرزاني إغراءات كثيرة أمام الابن الاكبر لجلال طالباني مقابل سحب مرشحه ، منها اعطاء سنتين من ولاية رئيس حكومة إقليم كردستان القادمة للاتحاد ، ومبلغ مالي يفوق ١٠٠ مليون دولار، وهنا تدخل لاهور شيخ جنكي حسب المصادر ذاتها ونسف الصفقة برمتها قبل إعلانها.
هنا يمكننا أن نستنتج بعض النتائج المثيرة التي أفرزها إنتخاب برهم صالح رئيسا لجمهورية العراق :
أولا: حصول برهم صالح على الأغلبية الساحقة 219 صوتا برلمانيا مقابل 20 صوتا فقط لمرشح مسعود البرزاني ، هو مؤشر واضح على أن العراقيون أصبحوا يفضلون التعامل مع برهم والاتحاد الوطني أكثر من رغبتهم في التعامل مع البرزاني وحزبه، وبذلك أصبح الاتحاد الوطني هو الأكثر قبولا من الديمقراطي ، وبات برهم صالح أكثر مقبولية من قبل العراقيين وإعتباره هو من يمثل المرجع الكردي للقرارات السياسية في العراق .
ثانيا: اصرار مسعود البرزاني على ترشيح سكرتيره الشخصي لرئاسة العراق كان ” إستهتارا واضحا ” بالمنصب الذي يرمز الى هيبة الدولة ، وسبق أن طلبت قيادات شيعية منه تغيير مرشحه بشخصية قيادية أكثر قبولا من حزبه، لكنه إستكبر وعاند وكانت النتيجة الرفض التام لمرشحه من قبل نواب البرلمان.
ثالثا: لم تكن هناك حاجة أصلا ليتقدم البرزاني بمرشح له لرئاسة الجمهورية لعدة اعتبارات، منها أن المنصب أصبح كعرف سياسي من حصة الاتحاد الوطني طالما أن جميع المناصب العليا في كردستان بيد الحزب الديمقراطي، وكان يفترض احترام هذا التوازن وعدم مزاحمة مرشح الاتحاد الوطني. كما كان يفترض ببرزاني أن لايخوض هذه المنافسة على الأقل إحتراما لتوجهاته السياسية المعلنة ، فهو قبل سنة واحدة كان يعتزم إنشاء دولة كردية مستقلة وفصل كردستان عن العراق، وأشار في تصريحاته أنه ستكون هناك حدود دم بين كردستان والعراق ، ثم يأتي بمرشح سيؤدي اليمين أمام البرلمان بالمحافظة على وحدة العراق، كان من شأن ذلك أن يؤثر كثيرا على مصداقية توجهاته السياسية على الأقل داخل البيت الكردستاني .
رابعا: بإنتخابه وقبوله من قبل نواب البرلمان والكتل السياسية العراقية الأخرى كرئيس للجمهورية ، أصبح برهم صالح في الحقيقة هو المنافس الأول لزعامة مسعود برزاني ، حيث أنه يحظى بقبول كبير من قبل البرلمان ، وهو بعودته الى الاتحاد الوطني أصبح يحظى بدعم قوي من قيادات حزبه ، وهذا الدعم يؤهله أن ينافس البرزاني في مرجعيته للقرار السياسي على الأقل بالنسبة للعملية السياسية في العراق.
خامسا: ظهور مجموعة شبابية داخل الاتحاد الوطني ممثلا بشخصية بافل طالباني ولاهور شيخ جنكي ، سيغير الكثير من المعادلات السياسية على مستوى كردستان أولا، ثم داخل الاتحاد الوطني الذي عانى لفترة طويلة من مشكلة التكتلات ومن استحواذ القيادات التقليدية على مجمل القرارات السياسية داخل الحزب ، وهذا أيضا سيؤثر على مرجعية مسعود البرزاني الذي كان الى فترة قريبة يسيطر تماما على قرارات الاتحاد الوطني عبر بعض قيادات الاتحاد المقربة منه ، ولذلك لم نستغرب حين تسربت بعض الأنباء عن ظهور توجه جديد لدى مسعود البرزاني نحو إعادة تجربة الادارتين المنفصلتين بحكومة إقليم كردستان، فما حدث من ظهور منافسين أقوياء ضده على المستويين العراقي متمثلا ببرهم صالح، وكردستانيا بظهور مجموعة قيادية شابة لا تؤمن بمرجعيته ، كل ذلك سيؤثر حتما على ذهنية وتفكير مسعود البرزاني مستقبلا ، وسنرى في المستقبل القريب ردود أفعاله العاصفة ازاء وضع كردستان بالمجمل .
جمال عبدالكريم