صندوق الرسائل العراقي
مشرق عباس
الحديث متواتر في العراق عن حالة من القلق تساور الأوساط السياسية والشعبية، نتيجة الخطوات المتسارعة التي تُتخذ أميركياً كإغلاق القنصلية في البصرة، وسحب الهيئات والوفود والمنظمات ووسائل الإعلام، بل والحديث مع إيران في شكل مباشر عن سياساتها في العراق من دون حتى الحديث مع العراقيين، رداً على تهديدات إيرانية عبر وكلاء محليين بضرب المصالح الأميركية والقضاء على «مؤامرة أتباع أميركا العراقيين»!.
تقول إيران دائماً أن في إمكانها معاقبة أميركا في العراق، تردد ذلك في رسائل متواصلة أدمنها العراقيون ودفعوا أثمانها غالياً، وهي رسائل مفهومة وصريحة على رغم إنكارها، ومع ذلك، فإنها لا تريد حقاً إلا الجلوس مع أميركا للتفاهم في النهاية، ومثل ذلك أنه في اليوم الذي يدعو الرئيس روحاني الى الحوار مع واشنطن، فإن خطيب جمعة طهران يعتبر انتخاب رئيس البرلمان العراقي الحالي «صفعة لأميركا»! وهذا أمر معتاد ولم يعد يثير الغرابة، لكن الجديد أن واشنطن ترامب باتت تهدد بدورها بمعاقبة إيران في العراق أيضاً!
للحقيقة، إن الولايات المتحدة عليها مراجعة دفاتر حكومات بوش وأوباما، لتكتشف أنها هي من ساهمت في الوضع العراقي المهلهل، وعندما تقرر الحديث بقوة مع إيران بطريقة إرعاب الشارع العراقي من حدث مزلزل ربما يقع قريباً ستكون عواقبه على العراقيين لا محالة، تترك خلفها إرثاً من التعاونات الثنائية لإبقاء العراق ضعيفاً ومحكوماً بحكومات فاسدة ومخترقة وفاشلة لا تمتلك القدرة على اتخاذ القرار من دون العودة الى المبعوثين الساميين الأميركي والإيراني، اللذين يتعاملان مع البلد ومن فيه كأرض متنازع على ملكيتها.
ترغب طهران في معاقبة العراقيين على إحراق قنصليتها في البصرة، وتتهم مثقفين وإعلاميين ونشطاء وبسطاء وفقراء ومسحوقين لم يبلغ معظمهم سن الرشد بالتنسيق مع القنصلية الأميركية في «مؤامرة كبرى»، فتنشر صوراً في وسائل التواصل الاجتماعي للقنصل الأميركي مع شباب من منظمات مجتمع مدني خلال دعوة غداء عامة، كأدلة قاطعة على هذه «المؤامرة»، ومن ثم تبدأ القوى المحلية المتعاونة معها، عمليات ترويع في الشارع وفي وسائل التواصل ضد المدنيين العراقيين.
الحقيقة المرة التي يتغاضى عنها الطرفان معاً، أن قوى المجتمع المدني في العراق والمجموعات الثقافية والتي لا تنكر أنها ساهمت بوطنية عالية في إطلاق الاحتجاجات العراقية استجابة لإرادة الشارع ضد الفساد والظلم والتعسف والانسياق للأجنبي، كانت وما زالت مصدر شك واتهام من السفارتين الأميركية والإيرانية معاً، وزيادة في كشف ما يجب أن يكشف، فإن الأموال الغزيرة التي يئن الرئيس ترامب في خطاباته على صرفها في العراق، كانت تجد طريقها دوماً الى جيوب القوى التي تتهمها واشنطن بأنها قريبة من إيران، وأن على الخارجية الأميركية أن تراجع حساباتها المالية، والأسماء والشخصيات والمنظمات التي صرفت عليها موازنات سفارتها في بغداد لتكتشف الأمر، بديلاً عن الحديث كضحية، والتصرف في منآى عن العراقيين، والصمت إزاء حملة التنكيل والتهديد التي يتعرض لها أبرياء بتهمة التآمر معها ضد إيران!
ومن ثم، على الإدارة الإيرانية أن تصارح مواطنيها وأتباعها في العراق، بحقيقة الأمر، فكيف يمكن أن تتحول قوى سياسية جمعت المال وشيدت القصور والاستثمارات تحت شعار «محاربة النفوذ الإيراني في العراق» الى أقرب حلفاء طهران؟ كيف يمكن تصوّر أن الانتصار السياسي الذي تفتخر به إيران اليوم، يأتي من الذين جمعوا مال السفارة الأميركية وسفارات الجوار الإقليمي بدعوى محاربة الاحتلال الإيراني؟ وفي أي منطق يتم تحويل عراقيين رفضوا الاحتلال الاميركي كما رفضوا النفوذ الإيراني، وحاربوا في ساحات المعارك ضد «داعش»، وجرحوا وقتلوا وتدمرت حياتهم بأكملها، الى مستهدفين وأهداف للانتقام من أميركا لمجرد أنهم يطالبون بوطن يليق بهم ويليق باسمه وتاريخه وليس مجرد حليف ذليل لهذه الدولة أو تلك؟
إذا كانت ثمة مواجهة محتملة بين واشنطن وطهران، فإن الطرفين يحتملان تبعاتها، وأن عليهما معاً تقليب دفاتر ملاحظات موفوديهما ورسائل عملائهما الحقيقيين، والسياسات الخاطئة التي قادت الى هذه اللحظة، وإذا كانا يريدان توجيه الرسائل، فإن ثمة صناديق رسائل كثيرة في المنطقة والعالم، أكثر فائدة من صندوق الرسائل العراقي الذي نخرته شظايا السيارات المفخخة.
“الحياة اللندنية”