رئاسة الوزراء.. قضية افراد ام نظم ومؤسسات؟
بات امراً محرجاً للشعب وجميع الاطراف قضية اختيار رئيس الوزراء والوزراء وبقية المسؤولين. فنحن نعاني في كل دورة من هذه المعضلة.. ولعلها تشير الى ازمة البلاد واستقرارها وامنها وتطورها، بل لعلها تشير الى اننا ما زلنا نفكر بعقلية القائد الضرورة، و”السوبرمان” الذي يستطيع حل معضلات البلاد، ولا نفكر ان المشكلة هي اولاً مؤسساتية ومنهجية قبل ان تكون فردية. فيبدو –وهماً- وكأنه تنقصنا الكفاءات والرجال والنساء، بينما ما ينقصنا هو المؤسسات ونظمها ومناهجها. ويهمنا في هذه الظروف الحساسة ان نؤكد على بعض المبادىء والاهداف التي قد تساعد بوضع مرتكزات وضوابط لهذه العملية، عسى ان نساعد في الانتقال من الفردنة الى المأسسة. ذلك إن كان الهدف بناء دولة ومجتمع.
1- قبل التفكير بالاسماء يجب التفكير بالمبادىء. واعتقد ان اول مبدأ هو التقيد بالدستور بغض النظر عن موقفنا الشخصي منه، تأييداً او معارضة، كلياً او جزئياً. فالدستور هو العقد المنظم لمجمل النظام. ودون التقيد به نصاً وروحاً فاننا سنترك شؤوننا للاجتهادات الخاصة الصحيحة والخاطئة، فنسقط في تقييم الشخصيات والاعمال دون “مسطرة” وموازين ومعايير حقيقية، وسنعتمد على الاجتهادات المتقلبة، والسماعيات والظنيات، ليس الا.
2- قبل التفكير بالوزراء يجب التفكير بقوانين الوزارات والهيئات ومهامها واهدافها. فالوزارات والهيئات والمؤسسات تنظمها قوانين نافذة تحدد مهمة وواجبات الوزير والمسؤولين وعلاقتهم بالشعب، وبالجهات العليا وبقية المؤسسات. والحال اليوم خلاف ذلك. فالأمر الديواني والوزاري، وهوامش المسؤولين والتوجيهات الشفاهية، والقرارات الصادرة نتيجة الضغوط، والتعيين بالوكالة، كلها فوق القانون ومخالفة له في احيان كثيرة. لابد من اعادة الامور لنصاباتها. فيكون قانون الوزارة والهيئة هو الحاكم الاساس لعمل الوزارة والمؤسسات والدوائر. فهو حاكم، كأي قانون اخر على السلطات الثلاث.. وحاكم لمنح الصلاحيات ولتنفيذ المهام وللمساءلة والاستجواب والتعاقد والانجاز والصرف والنزاهة والرقابة، الخ. انه اعلى من رئيس الوزراء والوزراء وعليهم جميعاً التقيد به، لا الالتفاف عليه. والقوانين يجب ان تكون اولاً واخيراً دستورية ولمصلحة المواطن والبلاد. فاذا كانت هناك ثغرات فيجب تعديلها وفق القانون. والوزير ورئيس الوزراء مسؤول، حسب اليمين الدستوري، امام مجلس الوزراء ومجلس النواب والشعب اساساً، قبل ان يكون مسؤولاً امام حزبه او طائفته او جماعته. وإن ترشيح الوزراء من قبل رئيس الوزراء او الاحزاب والجماعات يتطلب اساساً موافقة الأول وتبنيه الكامل للوزير وفق المنهاج الحكومي المقدم وكفاءته الحقيقية لتنفيذ برنامج وزارته وهيئته.. وعدم التذرع لاحقاً بالمحاصصة.. فكما هو المسؤول التنفيذي المباشر، فهو ايضاً المسؤول الاول امام مجلس النواب والشعب عن حكومته، ولا يمكنه التنصل من مسؤولياته والقائها على الاخرين. كذلك هناك التزامات متبادلة بين رئيس الحكومة والاغلبية البرلمانية والمنهاج الحكومي الذي تم تبنيه.. فالعهد مستمر بين جميع هذه الاطراف، ما دام الجميع حريص على مسؤولياته وادواره.
3- لابد ان توكل للمفتش العام (بعد تجديد كامل لمفهوم المفتش ودوره شكلاً وموضوعاً) او لهيئة جديدة مهمة وضع مقاييس معيارية معروفة في العالم والدول، ونظرياً في العراق مع تحديثها وجعلها عملية وممكنة، من حيث المهام، ومواصفات الاعمال، والنظم وانماط العمل لنرتقي ببلدنا الى المقاييس العالمية المعروفة. فالروتين والسياقات والهندسة والنظم والضوابط والشروط والمواصفات والتوقيتات والشفافية والمعلوماتية والاوامر والشكاوى، الخ، كلها امور يجب ان يعاد تنظيمها بالتدريج من الاهم الى المهم وفق برامج تُلزم الوزارات والمؤسسات بجداول زمنية محددة، لازالة الفوضى ولاعادة تنظيم الدولة والسلوكيات العامة بما يتوافق مع مصلحة البلاد والجمهور وحقوقهم وواجباتهم.
4- الاولوية هي المواطن لا المسؤول.. والفقير قبل الغني.. والعاطل والاحياء والمحافظات المحرومة قبل الميسورة.. والمتطلبات العاجلة كالماء والكهرباء والصحة والتعليم والبطالة والأمن والسكن قبل غيرها، ليتسنى ان تستقيم بقية الامور. فاموال النفط يجب ان ينظر اليها كلها كاموال الشعب تستخدم، وفق الدستور والقانون، لتطوير حياته ونشاطاته وأمنه ومستقبله.
5- امور تحقق الاهداف: أ) قوى أمنية وقضائية محلية صغيرة، لكنها قوية وفاعلة في كل محافظة لفرض القانون، شبيهة بقوات “مكافحة الارهاب” في الملف الامني.. مدربة تدريباً عالياً، ليس عسكرياً وأمنياً فقط، بل ايضاً سلوكياً وقضائياً وقانونياً وفي الحقوق الخاصة والعامة.. هدفها –مع بقية قوى الامن- فرض النظام ونصرة المواطنين وتطبيق العدل، وايقاف الفوضى الجارية. فلا احد فوق القانون.. لا المسؤول والمتنفذ، ولا القوى السياسية او المسلحة.. ولا الدول الاجنبية.. ولا بعض الممارسات العشائرية.. ولا الجماعات المسلحة خارج الدولة.. ب) تفعيل مجلس الخدمة الاتحادي لجعله القناة الوحيدة للتعينات، وليس الوزير او الحزب او غيرهما.. وتوحيد عمل القطاع الخاص والعام ليتمتع القطاع الخاص بنفس حقوق التقاعد والضمان وتوزيع الاراضي والمنافع، الخ.. ج) الانطلاق وليس الكبح.. ولابد من ادراج تعطيل الاعمال وعرقلة الاستثمار والتعاقد والمشاريع كجزة من الشبكة المفسدة. لذلك لابد من هيئة تستطيع وفق القانون الخروج من الروتين والتباطوء والتعطيل الذي يعرقل المشاريع، وبالتالي التقدم والانجاز والعمالة. فالفساد هو فساد المنظومة قبل فساد الاشخاص.. بدون اصلاح المنظومة سنستمر يومياً بانتاج مفسدين اكثر ممن نحاربهم.. سنكتشف بعد حين ان اجراءات النزاهة والرقابة ومحاربة الفساد، سينطبق عليها المثل الموصلي “نخيط من هوني، تنفتق من هونيك”.. د) ان يعطي المسؤول الاول وبقية المسؤولين الاولوية للتواجد في مواقع العمل والتنفيذ لا في السفر والاحتفالات الحزبية والمقابلات التلفزيونية.. وان تكون ارتباطات اطراف السلطة التنفيذية خصوصاً رئيس الوزراء والوزراء قريبة ميدانياً وفي التشريعات والمداولات مع السلطة التشريعية ورئاسة الجمهورية والسلطة القضائية لتكون للدولة فلسفة مرجعية ومناهج تطبيقية واحدة ومنسجمة.
6- بجانب الرشد في نشاطات الدولة وموازناتها ونفقاتها ومشاريعها، لابد ان نجعل الاستثمار سواء الخاص او العام، الوطني او الاجنبي قضية رئيسية، يرعاها ويحميها ويقدرها الجميع، إن اردنا الخروج من النظام الريعي والارتقاء بالبلاد، والتقدم بمستوى معيشة المواطنين ومحاربة البطالة والفقر ومظاهر التخلف. وان نصحح التشريعات والتعليمات والثقافات والسلوكيات بما يخدم هذه الاهداف وليس بالضد منها. وبعض ذلك: أ) انهاء النظم الورقية واللجوء للنظم الالكترونية، اينما امكن وكان ذلك مفيداً.. ب) انهاء اقتصاد العملة الورقي Cash Economy لمصلحة النظام المصرفي والرمزي.. ج) امتصاص الاموال خارج الدورة والبلاد، لتصبح ادخارات، وبالتالي استثمارات نافعة.. د) احياء وتفعيل الاصول والموجودات والحسابات الميتة والاراضي والمعامل والانهار والبحيرات والصحارى والجبال والثروات الطبيعية والبشرية والطاقة والمياه وموقع البلاد وامكانياتها الدينية والحضارية والادبية والفنية والابداعات والافكار والمبادرات والاختراعات والاكتشافات، وجعلها منافع وحقوق تسمح بانتشال البلاد من عقمها واعتمادها الاحادي على النفط.
7- هذه مجرد اسس ومداخل ضرورية تسمح بالارتقاء وحل بقية المشاكل الكبرى تدريجياً بما يسمح فعلاً بعودة الحيوية للمجتمع والمواطن والدولة. فهناك كلام كثير في المؤسسة الامنية والقضائية والتشريعية والاقتصاد والخدمات وفي العملية الانتخابية والاحزاب وفي المحافظات وبالنسبة للاقليم وعلاقاتنا بالدول، وهذه –وغيرها- يجب طرحها في مكانها ووقتها المناسبين.
8- كلمة اخيرة.. قد يرى البعض ان بلادنا ما زالت في مرحلة الثورة جزئياً او كلياً.. وهذه فرضية تتطلب النقاش والاتفاق، لكي لا نقع في تناقض بين خطاب عام يتكلم عن الدستور والقوانين وبناء الدولة والمجتمع، وممارسات يومية تعتمد اساليب المعارضة والثورة.
عادل عبد المهدي