جدار البصرة
سمير عطا الله
رأت موسكو السوفياتية أن إقامة اتحاد غير قابل للسقوط تقتضي أولاً فرض آيديولوجيا واحدة في جميع الجمهوريات التي يتألف منها؛ سواء كانت في آسيا أو في أوروبا؛ إسلامية أو مسيحية. لكن الآيديولوجيا وحدها لا تكفي، فلا بد من مراقبتها. لذلك، زرعت الروس في كل مكان، وأعطتهم المناصب الحساسة، وغيرت البرامج الدراسية، و«غسلت» العقول، وألغت تاريخ الجمهوريات ولغاتها وتقاليدها، وفرضت الروسية لغة واحدة. وروى رزيارد كابوشنسكي أنه كان طفلاً عندما أصبحت قريته تحت السلطة السوفياتية، وعندما ذهب إلى المدرسة طلب منه المدرِّس أن يتلو الـ«ألف باء»، فوقف وبدأ: «ألف باء سي. ABC». غير أن المدرس قاطعه قائلاً: الأبجدية هنا تبدأ بحرف السين: ستالين.
عندما انهار الاتحاد السوفياتي، تفكك كل شيء في يوم واحد. أصبح الروس في الجمهوريات السابقة أقليات خائفة لا دور لها. وعادت المساجد والكنائس المهجورة، ولم يعد ذكر الله محظوراً. وعادت الأبجدية تبدأ بحرف الألف. ولا ينسى مشهد ميخائيل غورباتشوف يخاطب الناس في ساحات دول البلطيق، ببلاغته وأناقته وليونته، داعياً لإعطاء الشيوعية الفرصة. لكن الناس لم تكن ترفض شيوعيته، بل أبجدية حرف السين.
خرج السوفيات من الجمهوريات السابقة بلا أثر. وكان أول ما فعله بعض حلفائهم الانضمام إلى حلف «الناتو» بعد عقود في حلف «فرصوفيا».
تحاول إيران أن تنسخ التجربة السوفياتية حرفاً حرفاً: الآيديولوجيا والتغيير الديموغرافي، وفرض اللغة الفارسية، وزرع الإيرانيين، خصوصاً الرقباء منهم، في الجيوش والمدارس.
تهيأ لطهران أن التجربة قد نجحت… ها هو اللواء سليماني يتفقد قواته في كل مكان، والعراق بكل شعبه ومساحاته ومياهه العذبة، يتحول إلى مجرد محافظة ثمينة، وسوريا بقيت جغرافيتها، لكن أهلها أخرجوا.
…ثم فجأة، تبدأ علامات الانهيار. في سوريا ليست إيران هي الفريق الأول، بل ثمة من يحدد أماكن وجودها. وفي العراق تبدأ الثورة من البصرة ويحدث ما لم يحدث من قبل: المعارضون لا «يفجرون» القنصلية الإيرانية، بل يقتحمونها… أي إنهم يجاهرون بهوياتهم ولا يخفونها، بحيث يسهل الحديث عن مؤامرة.
الأفضل للجمهورية الإسلامية أن تراجع التجربة السوفياتية: ليس كيف بدأت؛ بل كيف انتهت. تصبر الناس على الأجنبي طويلاً، ثم تتفجر مرة واحدة، وبأيديها تقتلع حجارة جدار برلين. البصرة مشاعر عراقية لا مؤامرة أميركية. وإن كان ذلك يفرح الأميركيين.
نقلا عن “الشرق الاوسط”