مركز الروابط : لمن الغلبة في المشهد السياسي العراقي؟
بعد أكثر من مائة يوم من إجراء الانتخابات النيابية وبعد شد وجذب بخصوص نتائجها، عقدت في الثالث من الشهر الحالي أعمال الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي. وبعد استكمال الإجراءات البروتوكولية للجلسة، التي تضمنت كلمات لرؤساء الجمهورية والحكومة و النواب المنتهية ولايته، دشن مجلس النواب الجديد دورة جديدة، بجلسة قادها أكبر النواب الفائزين سنا، حيث أدى الفائزون اليمين الدستورية، ثم فتح الباب لتقديم أوراق الكتلة الأكبر. وقد تحولت الجلسة الأولى، إلى ساحة للصراع السياسي بين فريقين يسعى كل منهما لتشكيل الكتلة الأكبر، التي تملك حق ترشيح رئيس الوزراء القادم. وبينما بدا أن الساعات الأخيرة في ليل الأحد، كانت حاسمة لجهة ترجيح كفة الفريق الذي يقوده رئيس الحكومة حيدر العبادي، المدعوم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية حملت ساعات الصباح التالي مفاجأة كبيرة، عندما استعاد الفريق الذي يقوده نوري المالكي، المدعوم من إيران، زمام المبادرة.
ومثلما كان متوقعا، قدم فريق العبادي، الذي يضم فضلا عن ائتلاف النصر، كلا من قائمة سائرون المدعومة من رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وتيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم، وائتلاف الوطنية بزعامة إياد علاوي وأسامة النجيفي وآخرين، أوراقا تؤكد تشكيل الكتلة الأكبر بعنوان “الإصلاح والبناء”، مطالبا رئيس الجلسة باعتمادها.وتضمنت الأوراق تواقيع زعماء كتل تضم 184 نائبا. في المقابل قدم فريق رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، الذي يضم فضلا عن ائتلاف دولة القانون كلا من تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، والمشروع العربي بزعامة خميس الخنجر، واتحاد القوى بزعامة محمد الحلبوسي ونوابا آخرين منشقين عن قائمتي العبادي وعلاوي، قائمة بتواقيع 153 عضوا في البرلمان، بوصفهم ممثلين للكتلة الأكبر، التي أطلقوا عليها اسم “البناء”.
وعلى وقع الخلافات السياسية بين الكتل النيابية في تحديد الكتلة الأكبر في مجلس النواب واختيار رئيسه ورئيس الجمهورية علق مجلس النواب العراقي جلساته حتى منتصف الشهر الحالي بهدف إجراء مفاوضات موسعة بين الكتل النيابية للتوصل إلى اتفاق حول تسمية رئيس للمجلس وإنهاء الخلافات بشأن تشكيل التحالف الأكبر. وعلى الرغم من أن الجلسة أخفقت في تحقيق أي من هذه الأهداف، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية الحراك السياسي الذي يشهده العراق، والذي قد يؤدي، إذا ذهبت الأمور في الاتجاه الصحيح، إلى نتيجتين كبريين: الأولى، تغيير طبيعة النظام السياسي الذي أقامه الاحتلال الأميركي على أساس المحاصصة الطائفية، وتبلور خط سياسي وطني عراقي، يسعى إلى الاستقلال عن النفوذين، الأميركي والإيراني، معًا.
أولى الملاحظات على الحراك السياسي العراقي الراهن هي إيذانه بانتهاء التحالفات القائمة على أساس طائفي، إذ انهار التحالف الوطني (الشيعي) الذي حكم البلاد، بقيادة حزب الدعوة، منذ عام 2005، وتكرّس خلال ولايتي رئيس وزراء العراق السابق نوري المالكي الأولى والثانية (2006 – 2010 و2010 – 2014)، وظهرت مكانه مجموعة قوى سياسية موزّعة على تحالفيْن كبيريْن، يضم الأول ائتلاف دولة القانون والفتح (نوري المالكي – هادي العامري)، ويضم الثاني ائتلاف “سائرون” بقيادة مقتدى الصدر، و”النصر” بقيادة رئيس الوزراء الحالي ، حيدر العبادي، و”الحكمة” بقيادة عمّار الحكيم. لا ينطبق هذ الأمر على القوى السياسية “الشيعية” فقط، بل ينسحب أيضاً على القوى السياسية “السنّية”، إذ اختار جزء من تحالف “القرار” برئاسة رئيس مجلس النواب السابق، أسامة النجيفي، الانضمام لمعسكر الصدر- العبادي- الحكيم، فيما اختار جزء آخر من “القرار” خميس الخنجر، الانضمام إلى معسكر المالكي.
اللافت في الانقسامات، هذه المرة، أنها لم تعد مبنيةً على الخلافات الشخصية بين الرموز السياسية العراقية، على أهميتها، خصوصا التي تسم علاقة المالكي مع كل من الصدر والعبادي، إنما، وهذا الأهم، باتت تتمحور حول البرامج والرؤى، خصوصا منها الجانب المتعلق بهوية العراق وموقعه الإقليمي واستقلالية قراره، وعلاقته بحروب المحاور الدائرة في المنطقة. على الرغم من أن خيبات الأمل المتكرّرة تتطلب منا الحذر في إطلاق استنتاجاتٍ سريعة، لكن الواضح أن الصراع الكبير الذي تشهده الساحة العراقية اليوم يتحول، بوضوح، من سياق طائفي (سني – شيعي) إلى سياق سياسي يتواجه فيه معسكران، يرتبط الأول بقوة بإيران، لا بل يقوم على تبعية مطلقة لها من منطلق اعترافه بولاية الفقيه، وإيمانه بمشروع سياسي شيعي فوق –قومي، عابر للحدود تقوده إيران. فيما يسعى المعسكر الثاني، ويضم عددا لا يُستهان به من القوى السياسية العراقية، السنية والشيعية والمدنية، إلى الانعتاق من الهيمنة الإيرانية، والتأكيد على مصالح العراق وهويته الوطنية وانتمائه الثقافي العربي، من دون أن يكون بالضرورة معاديا لإيران
أما عن الكرد فقد قرروا لغاية الآن ألا يدخلوا ضمن أي تحالف للكتلة الأكبر، لكنهم على استعداد للتفاوض مع أي كتلة تتشكل. ويمكن أن يشكل الموقف الكردي عنصرا حاسما في ترجيح كفة الولايات المتحدة أو إيران، في ملف تشكيل الحكومة العراقية الجديدة. فهم بيضة القبان في العملية السياسية العراقية، فانضمامهم إلى الكتلة الإيرانية في مجلس النواب العراقي الجديد، من أجل ترجيح كفّة نوري المالكي أو هادي العامري ليس مضمونا. على الرغم من أن لدى الكرد، أقلّه لدى قسم منهم، حسابا يريدون تصفيته مع حيدر العبادي ودوره في مرحلة ما بعد الاستفتاء على الاستقلال الكردي ومعركة كركوك، إلا أنّ ليس في استطاعتهم التجاهل الكامل لما تسعى إليه الإدارة الأميركية. لعبت الإدارة عبر مبعوثها إلى العراق، بريت ماكغورك، دورا محوريا في تشكيل جبهة عريضة تقف في وجه المشروع التوسّعي الإيراني الذي يعتبر العراق مجرّد ولاية أو محافظة تُدار من طهران.
بينما كانت أنظار العراقيين تتابع أخبار وصور مفاوضات تشكيل الكتلة الأكبر، كان هناك لاعبان أجنبيان في خلفية المشهد، يقودان حملتين متضادتين، لترجيح كفة فريق عراقي على آخر في سباق الفوز بمنصب الرئيس الجديد لحكومة البلاد.ولم يحتج اللاعبان الأجنبيان، وهما بريت مكغورك المبعوث الخاص للرئيس الأميركي لدى التحالف الدولي، وقاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، إلى تغطية كل تحركاتهما، بل إنهما في الأيام القليلة التي سبقت عقد الجلسة الأولى للبرلمان الجديد، رفعا السرية عن حراكهما، ما حول المنافسة بينهما إلى مجال مفتوح أمام الجمهور.
ولم يعد، خلال هذه الأيام، حديث تبني الأميركيين دعم رئيس الوزراء حيدر العبادي لولاية ثانية، أو وقوف الإيرانيين خلف نوري المالكي، كي يعود إلى منصب رئيس الحكومة، سرا، بل بات شأنا تداولته وسائل الإعلام بوصفه جزءا طبيعيا من مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة.ووفقا لشخصيات عراقية التقت الرجلين، أو تلقت اتصالات منهما كليهما أو من أحدهما، فإن التكتيكات المعتمدة من قبلهما بدت متشابهة إلى درجة كبيرة، بالرغم من أن مكغورك يسعى لتشكيل حكومة موالية لبلاده، فيما يحاول سليماني ضمان استمرار الخضوع العراقي لإيران.
فالمبعوث الأميركي والجنرال الإيراني كانا يدشنان اتصالاتهما مع الشخصيات العراقية المستهدفة، في العادة، ملوحين بالجزرة، لكنهما لن ينتظرا كثيرا قبل التلويح بالعصا.ولكن الفارق هو في طبيعة الجزرة وشكل العصا، اللتين تستخدمان في “مفاوضات الإقناع أو الإخضاع″. فبينما يمثل “الدعم السياسي” عاملا مشتركا بين الجزرة والعصا الأميركيتين، بتوفيره أو قطعه، تكون الجزرة الإيرانية عبارة عن مناصب حكومية يدر إشغالها مالا وفيرا أو يوفر نفوذا سياسيا كبيرا، فيما تمثل العصا في بعض الأحيان موتا محتما.
وفي حالات عدة اشتكت شخصيات عراقية بارزة من طريقة مكغورك “الجافة” في التعامل معها، بينما لم تسجل مثل هذه الشكاوى في حالة سليماني.وعقب لقاء في أربيل بين زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني والمبعوث الأميركي، نقلت وسائل إعلام كردية تفاصيل حوار دار بين الرجلين، كشفت عن تذمر الزعيم الكردي البارز من “غلاظة” مكغورك.وقالت وسائل الإعلام الكردية إن البارزاني حاول إيصال شكواه من مكغورك إلى الخارجية الأميركية أو مكتب الرئيس ترامب، لكنه فوجئ بدعم هذين المركزين القويين لـ”جهود المبعوث في مساعدة العراق على تشكيل حكومة قوية”.وقد يبدو أن هذه الصورة تشير إلى “لطف” سليماني، في مواجهة “شدة” مكغورك. لكن الحقيقة هي أن الساسة العراقيين الذين يتعاملون مع سليماني، لا يجرأون على انتقاده في العلن، لأن عقاب ذلك، وفقا لتعبير مسؤولين عراقيين مطلعين على كواليس هذا النوع من اللقاءات، قد يصل إلى تصفيتهم جسديا.
وعلى مستوى الظهور العلني يفضل مكغورك أن يكشف عن لحظة وصوله إلى بغداد، ملمحا إلى ما يمكن أن يقوم به من مشاورات من دون الخوض في تفاصيلها، بينما يفضل سليماني أن تتسرب أنباء لقاءاته بالساسة العراقيين عقب انتهاء جلسة مفاوضاته معهم، وربما عقب مغادرته البلاد.ويقول مراقبون إن سلوك مبعوث ترامب لا ينقطع عن سياق الغطرسة الذي يغلف أداء المسؤولين الأميركيين، كلما تعلق الأمر بالتعامل مع دول العالم الثالث، فيما يشير سلوك قائد فيلق القدس إلى البراغماتية التي تنتهجها السياسة الإيرانية وهي تخوض مواجهة محفوفة بالمخاطر مع الولايات المتحدة.ويقول مراقبون إن المرحلة الحالية التي تشهد مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة في العراق، تمثل ذروة التنافس بين الولايات المتحدة وإيران في المنطقة، مع سعي كل من الطرفين لبسط نفوذه على أهم عواصمها، وبغداد في مقدمتها.ولذلك يرجح المراقبون استمرار التنافس الشرس بين مكغورك وسليماني، إلى حين إغلاق ملف الحكومة العراقية الجديدة، التي سيعلن شكلها عن الفائز في المعركة بين واشنطن وطهران.
في كل الأحول، لن تكون معركة القوى السياسية العراقية لتحقيق استقلال القرار الوطني سهلة، فإيران استثمرت جل جهدها خلال العقدين الأخيرين في إبقاء العراق ضعيفا وتابعا، وسوف تزداد أهميته بالنسبة لها سياسيا واقتصاديا في المرحلة المقبلة، في ظروف عودة الحصار والعقوبات والأميركية. لا بل تتجه إيران على ما يبدو إلى تحويل العراق، كما سورية ولبنان، إلى خط ثالث في استراتيجيتها الأمنية والدفاعية، إذ قامت، وفق تقارير إعلامية، بتسليح فصائل الحشد الشعبي بصواريخ يصل مدى بعضها إلى 700كلم، وهذا يعني أن معركة استقلال العراق سوف تصبح أصعب، إنما أكثر إلحاحا في الوقت نفسه.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية