التاريخ وما حولنا، جزء من واقعنا وحاضرنا ومستقبلنا
قبل عقود من السنين بدا وكأن بلدان المنطقة تنهض، وان العراق هو البلد الوحيد الذي يشهد ازمات متكررة. الحرب العراقية/الايرانية.. اجتياح الكويت.. الحصار والعقوبات.. الاجتياح الامريكي.. العراق تحت الاحتلال.. “القاعدة” و”داعش” والجماعات المسلحة.. وانقسامات اجتماعية عنيفة. وفجأة في العقد الثاني من القرن، حصلت تداعيات عنيفة هزت بلدان شمال افريقيا ومصر والسودان والخليج وسوريا ولبنان والاردن، ناهيك عن الأحداث الكبرى التي سبق وحصلت في تركيا وايران وباكستان وافغانستان وغيرها، ما يشير كله اننا امام إنهيار معادلات تاريخية وقيام معادلات جديدة.. وأزمة اختلال توازنات جيوبوليتيكية وتراجع مناطق وبلدان وتقدم اخرى.. فالقراءة انطلاقاً فقط من الاحداث والوقائع والازمات الداخلية وعدم وضعها في سياقاتها التاريخية والمناطقية سيقود لقراءات خاطئة ومواقف اما متطرفة ومتهورة لتحرق المراحل، او متعجرفة وجامدة ترفض التغيير وتحافظ على حسابات وامتيازات الماضي. نرى ان القراءات تأتي متكاملة عندما نربط الحاضر بالماضي والمستقبل.. واوضاع العراق وارتباطها باوضاع المنطقة والعالم.. اعيد نشر افتتاحية “الشرق الاوسط بين الراديكالية والانفتاح.. وتقدم الغرب او تراجعه (3)” بتاريخ 13/9/2011، والتي كُتبت تعليقاً على الانتفاضات التي تفجرت في بلدان كانت تعتبر محصنة وهادئة يومها، وهذا نصها:
[“ستمثل طبيعة العلاقة بين الديمقراطية والمطلبية والاسلام، كمحركات اساسية للانتفاضات، استشرافاً واقعياً للمستقبل وقواه الحاملة للمشروع.. ونستذكر ثلاث ثورات بابعاد عالمية، احدثت نقلة نوعية غير مسبوقة، والتي اورثت -مباشرة وغير مباشرة- المحركات مفاهيمها ومنطلقاتها واساليبها.
• كان شعار الحرية والمساواة والاخاء، الذي رفعه نواب الجمعية الوطنية الفرنسية في حدائق التويلري بباريس، مدعومين بجماهير ثائرة من عمال المدن العاطلين ومهاجري الريف الجياع والمتكدسين في الاحياء المكتظة، هو شعار الثورة التي اسقطت الملكية واعلنت اول جمهورية تقوم على مبدأ المواطنة.. وفق عقد اجتماعي (روسو) ينظمه دستور وطني. فولدت الجمهورية الاولى من رحم تأييد حق تقرير المصير وثورة الاستقلال الامريكي عن بريطانيا، والتي دفعت لاحقاً بجيوش نابليون نحو مصر وروسيا وغيرهما.. وهو تاريخ قد يستحضره ساركوزي اليوم في موقفه، لاسيما في تونس وليبيا وسوريا.
• وبعد هزائم روسيا امام المانيا، وبتدخل الاخيرة لتشجيع الثوار ضد قيصرهم، اندلعت ثورة 1917 في شباط اولاً، ثم في اكتوبر بقيادة البلشفيك الذين طوروا نظريات وممارسات التحريض والتعبئة للاحزاب الشيوعية، ذات التنظيم الحديدي والبرامج النظرية الصارمة.. مما سمح للمثقفين الثوريين والجماهير الغاضبة الجائعة من القضاء على اخر قياصرة روسيا.. وتأسيس حركات مطلبية عالمية للعمال والفلاحين.. والتي استعارت اساليب تنظيمها واشكال برامجها وانماط تحريضاتها وتعبئتها وتحالفاتها، الحركات الثورية في العالم بما فيها القومية وحتى بعض الاسلامية.
• وبعد سقوط الخلافة جددت الثورة الايرانية مشروع الدولة الاسلامية بقيادة العلماء يدعمهم الملايين المنتظمين في دور العبادة والشعائر الدينية والمطالب الوطنية، لتقضي على اخر الشاهنشاهات، ولتؤسس للمرة الاولى جمهورية اسلامية تقوم على انتخاب الشعب المباشر قيادات الدولة عبر مجلس الخبراء والشورى ورئيس الجمهورية، بما يمنع التوريث ويضمن تداول السلطة وفق دستور تم استفتاء الشعب عليه.. وهي التجربة التي تقترب منها، او تبتعد عنها، المشاريع الاسلامية، الساعية لانظمة جديدة تجمع بجرعة عالية او منخفضة الاحكام والقواعد الاسلامية، ومفاهيم الجمهورية والديمقراطية والمطلبية.
فالشرق الاوسط لم يعد نفسه بعد شباط 2011. فالتغيير اصبح حقيقة.. والانظمة التي ستتأخر سيجرفها التاريخ.. وستتدافع عناصر الديمقراطية والاسلام والمطالب.. وستعتمد النجاحات المحلية هنا وهناك او الانحراف والفشل، على حسن توازن العلاقة بين العناصر الثلاثة بابعادها الداخلية ومصادرها التاريخية والخارجية.. التي ستتحرك لتشجع ما تتماهى معه، وتقف بوجه ما تخشاه.”] فمهما كانت مآلات هذه التحولات النوعية والنجاحات والاحباطات الداخلية والخارجية، ومختلف المواقف المؤيدة والمعارضة، لكنها تحولات نوعية غيرت مجرى الحاضر والمستقبل، ومجرى الاحداث العالمية ومنها منطقتنا. والأمر نفسه بالنسبة للتغيرات الحاصلة في العراق والمنطقة، لذلك نجد كثيرين يحللون الاوضاع والتطورات خارج سياقاتها، تتجاذبهم تصورات سابقة، او غير موجودة على ارض الواقع، فيرتكبون اخطاء جسيمة في الفهم والسلوك.
عادل عبد المهدي