هل آن لأوروبا أن تنفصل عن أميركا؟
مصطفى كركوتي
سؤال بدأ يطرح نفسه بهدوء في منصات سياسية وإعلامية في دول الاتحاد الأوروبي منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2016، ولكنه بات الآن خياراً يجري بحثه في مراكز أوروبية عدة لصنع القرار، لا سيما بعد إفصاح ترامب في أكثر من مناسبة في العام الجاري عن عداوة كامنة لأوروبا.
هناك واقع سياسي جديد يرتسم بتشابك مفاهيم قائم على الخصومة والمواجهة مع حليف الأمس عبّر عنه الرئيس الأميركي بتصنيف أوروبا ضمن لائحة أعداء الولايات المتحدة بقوله «الاتحاد الأوروبي خصم». هذا ما يضع القارة الأوروبية أمام واقع جديد بدأ يفرض على قادتها التفكير في إعادة هيكلة مستقبل العمل الأوروبي المشترك. هذا ما ألمحت اليه مستشارة ألمانيا أنغيلا مركل بتأكيدها: «مصيرنا نحن الأوروبيين يجب أن يكون بيدنا».
واضح أن هناك خلافات تلامس العمق لم تبرز إلى السطح سابقاً. وهذه ناجمة عن عملية العولمة الواسعة التي رافقتها تحولات سياسية واجتماعية والتي حملت معها تطلعات وديناميات مختلفة عن تلك التي سادت العلاقات عبر الأطلسي منذ ما بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية، لا سيما خلال عقود الحرب الباردة التي كانت سمة العلاقات الدولية في القرن العشرين.
والتحدي الكبير الآن أمام قادة أوروبا هو، كما يبدو، عدم السماح للأفكار والمثل التي صاغت تلك العلاقات أن تعكر مساعي البحث عن تفكير جديد لصوغ علاقات جديدة تحيط بالخلافات الناشئة. لقد حاولت مركل وغيرها من قادة أوروبا اقناع ترامب في العام الفائت بألا يسحب بلاده من اتفاقية باريس في شأن المناخ على رغم أنها ثاني أكبر (بعد الصين) ملوّث في العالم لما تضخه من ثاني أوكسيد الفحم. وكان رده على هذه المحاولات قوله إن اتفاقية باريس ليست إلا «عملية كبرى لإعادة توزيع ثروة الولايات المتحدة إلى دول أخرى، وأقول لهؤلاء الآن تم انتخابي لتمثيل مواطني بتزبورا (بلدة صناعية في بنسلفانيا الأكثر تلويثاً) وليس باريس».
ترامب لم يتردد بعد موقفه إزاء اتفاقية المناخ في الإعلان عن مواقف أخرى مماثلة توسع الهوة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين عاكسا بذلك عدم اهتمامه بمركز بلاده القيادي لمنظومة متعددة الأقطاب تنظم الأمن والتجارة العالميين، إذ فرض على العالم عملية إعادة صوغ العلاقات الجيوسياسية بما في ذلك عزمه على لجم التجارة العالمية لمصلحة بلاده. ولعل هذا يعكس سياسته الجديدة «أميركا أولاً» التي باتت تسود كل صيغ العلاقات السابقة للولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين.
إنه عملياً يقلب الطاولة على كل العلاقات التي كانت قائمة على أساس اتفاقية نظام «بريتون وودز» بين الحلفاء عام 1944 التي أطلقت البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتفاقية العامة حول رسوم الجمارك والتجارة (غات)، وحددت سعراً لصرف العملات واتفقت أن يكون الدولار الأميركي العملة الاحتياطية في العالم. ويبدو أنه ليس لقادة أوروبا غير خيار واحد لمواجهة توغل ترامب في المواجهة مع إقليمهم واتخاذ الإجراءات اللازمة لفك أوروبا عن نزعات السياسة الأميركية وتشكيل هوية جيوسياسية جديدة للاتحاد الأوروبي. وهذا لا يعني بالضرورة إعلان حرب اقتصادية أو عسكرية على أميركا، بل تسمية الأشياء بأسمائها وتحديداً أن لا هدف لترامب غير انتزاع بلاده من بقية العالم بما في ذلك حلفاء الأمس. وواضح أن السعي الديبلوماسي لم يعد ناجعاً في معالجة الصدمة الترامبية كما حاول رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك قوله عندما رد على ترامب: «ليس للولايات المتحدة ولن يكون لها حليف أفضل من الاتحاد الأوروبي»، في الوقت الذي يصف فيه ترامب الاتحاد الأوروبي بـ «الخردة» وأخيراً بـ «الخصم» للولايات المتحدة.
في هذه الأثناء، ترامب نفسه يغلق الباب أمام أي احتمال لحوار بناء بشأن العلاقات بين دول التحالف الغربي، بل على العكس فهو يسعى إلى تفكيك هذه الدول وإضعاف الاتحاد الأوروبي. رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي التي تستعد للتفاوض مع الاتحاد حول انسحاب بلادها من عضويته (بريكزيت)، كشفت بعد انتهاء زيارة ترامب الأخيرة إلى لندن أن الرئيس الأميركي نصحها بأن «تقاضي» الاتحاد الأوروبي. كما كان قد وصف طريقة ماي في التفاوض بشأن «بريكزيت» في تصريح لصحيفة «الصن» واسعة الانتشار بأنها «ضعيفة ومترددة».
ترامب لا يتردد عملياً في إلحاق الضرر البالغ في هيكل التحالف الغربي، لا سيما وهو يلقى الترحيب من قاعدة شعبية واسعة في بلاده وفي بعض دول الاتحاد الأوروبي ذات الأنظمة الشعبوية، ليس عابئاً بما تشكله سياسته من أخطار على الأمن الأوروبي وتقويضه لمنظمة الناتو في الوقت ذاته. ويبدو أنه بات مقبولاً الآن أن يهدد الرئيس الأميركي بخفض ميزانية بلاده في الناتو وإنهاء الوجود العسكري الأميركي في أوروبا وسحب الـ35 ألف جندي أميركي من الأراضي الألمانية. وما فعله ترامب أنه بسابقته تلك وضع سقفاً جديداً للسياسة الأميركية تجاه أوروبا، لا يستطيع أي رئيس آخر محتمل أن يتجاهله في المستقبل، ما دفع إلى ارتفاع أصوات أوروبية تحذر من عواقب قيامه بإملاء السياسات على أوروبا أو بعض دولها.
فانتزاع أوروبا من مفاصل السياسة الأميركية يعني أنه سيخفف من نفوذ واشنطن في الإقليم الأوروبي، ويعني أيضاً فتح السبيل أمام ولادة أوروبا أكثر نضجا واستقلالاً، ويعني منح الاتحاد الأوروبي، كما تقول مركل، فرصة لتطوير مشاريع اقتصادية وسياسية مستقلة ووضع أسس تعزز سلام واستقرار أوروبا، كما ينهي تبعيتها لأميركا.
انتزاع أوروبا من نزعات الولايات المتحدة على صعيد السياسة الدولية لا يعني عزل الاتحاد الأوروبي وسكانه (اجتاز نصف المليار عام 2016)، بل يؤكد الحاجة إلى بعض التوازن في قواعد وأنماط التجارة والأمن على مستوى العالم. رئيس مفوضية الاتحاد الأوروبي جان-كلود جنكر دعا إلى بناء «اتحاد دفاعي» مؤكداً أنه سيكون «مكملاً» للناتو، ولكنه في الحقيقة سيدفع في اتجاه ما تدعو إليه ميركل بضرورة أن يمسك الأوروبيون مصيرهم بيدهم. ولكن في الوقت ذاته، ينبغي على أوروبا أن تتخلص من شوائب عدة، أهمها سياسة النخب بين دولها القوية والغنية وتبني سياسة تكافؤ تقوم على العدالة في ما بينها وليس سياسة العمل الخيري الراهنة تجاه أعضائها الفقراء.
“الحياة اللندنية”