حروب التبادل الرأسمالية ونيران الباحة الخلفية
رأي القدس
اندلعت مجدداً جولة جديدة من حروب التبادل التجاري بين الولايات المتحدة من جهة، والاتحاد الأوروبي والصين من جهة ثانية، على نحو يهدد بإلحاق أضرار بالغة باقتصاديات هذه البلدان، وخفض معدلات نمو الناتج القومي، مع ارتفاع العجز التجاري والتضخم. ومن الطبيعي أن تنعكس عواقب هذا الصراع على الاقتصاد العالمي بأسره، خاصة في البلدان النامية التي سوف تقع ضحية الاشتباك بين القوى الكبرى، ولن يكون لها فيه موقع آخر سوى ميادين تقاطع النيران.
وكما هو معروف بدأ الأمر من سلسلة قرارات اتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ضمن مقاربته العامة حول مبدأ «أمريكا أولاً»، واعتماد سياسات في الحماية عن طريق فرض الرسوم الجمركية، مما يتسبب في تكبيل الصادرات والواردات معاً حسب إجماع كبار أخصائيي التجارة والتبادل على المستوى العالمي.
وكانت خطوة ترامب الأولى هي فرض رسوم على واردات الصلب والألمنيوم تراوحت بين 10 و25 في المئة، كما أعلن رسوماً بقيمة 50 مليار دولار على البضائع الصينية، فلم يتأخر رد أوروبا، وكذلك الصين. الخطوة الثانية كانت التلويح بفرض رسوم بنسبة 20 في المئة على السيارات المستوردة من الاتحاد الأوروبي، فحذرت المفوضية الأوروبية بأن صادرات أمريكية بقيمة 294 مليار دولار قد تتعرض لتدابير مضادة، وكذلك ستفعل الصين إذا نفذ ترامب تهديدة بفرض 200 مليار دولار من الرسوم على الواردات من الصين.
وأما الخطوة الثالثة المنتظرة فهي احتمال انسحاب الولايات المتحدة من منظمة التجارة الدولية، والقطع بالتالي مع اقتصاديات 163 دولة عضو في المنظمة من جهة أولى، ثم العودة بالاقتصاد الأمريكي إلى الأجواء الانعزالية التي سادت خلال ثلاثينيات القرن الماضي من جهة ثانية. هذا على الرغم من أنّ المنظمة وليدة تفاهمات القوى العظمى والمراكز الكبرى في النظام الرأسمالي المعاصر، وهي أصلاً نشأت استناداً إلى مبدأ التبادل الحر ورفع القيود عن الأشغال والاستثمارات، وتلك قاعدة عزيزة على فكر الاقتصاد وممارسته في أمريكا تحديداً.
ومن الواضح أولاً أن ترامب لا يكترث بالعواقب الوخيمة التي سوف يسفر عنها خياره في إعادة إشعال حروب التبادل، ليس في ما يخصّ اقتصاديات حلفاء أمريكا وحدهم، وإنما أيضاً الاقتصاد الأمريكي ذاته. لقد فعلها الرئيس الأسبق رونالد ريغان خلال ثمانينيات القرن الماضي مع اليابان، ثم اضطر إلى التراجع بعد أن تضاعف العجز التجاري الأمريكي من 36 مليار دولار في سنة 1980، إلى 170 مليار دولار في 1989. كذلك فعلها الرئيس السابق باراك أوباما بخصوص إطارات السيارات الصينية، ثم تراجع عنها بدوره بعد أن اتضح عجزها عن تحقيق وثبة في خفض العجز. واليوم يشير الاقتصاديون إلى أن إجراءات ترامب المتلاحقة سوف تكبد أمريكا هبوطاً في معدل النمو يبلغ 0.2 في المئة خلال السنة المقبلة، وخسارة 100 ألف وظيفة.
ولقد أثبتت تجارب الماضي، القريبة والبعيدة، أن نيران حروب التبادل ترتد أخيراً إلى الباحة الخلفية لأولئك الذين يتوهمون إشعالها في الخارج، وأن الأذى في الداخل قد يكون أشد وأقسى.
“القدس العربي”