إلى أين تتجه ليبيا؟
محمد بدر الدين زايد
أحيط مشهد استضافة الرئيس الفرنسي ماكرون للقيادات الليبية الأربع الرئيسية في باريس بالكثير من الضجة الإعلامية التي تبين لاحقاً أنه مع أهمية هذه الخطوة وتحقيقها قدراً من النجاح، إلا أن المسألة ما زال يكتنفها الكثير من الصعوبات والتحديات، وهو ما كشفته بعض التصريحات التالية، كما نبّه البعض إلى أن هؤلاء القادة لم يوقعوا اتفاقاً، بل أعلنوا فقط التزامهم بمجموعة نقاط أو مبادئ. كما نشرت وكالة «رويترز» أخيراً عدداً من التقارير الكاشفة لعودة الجمود مرة أخرى إلى هذا المشهد الليبي، ومحدودية نتائج اجتماع باريس.
وفي الواقع لا أرى هذا الاجتماع خطوة سلبية بل هي خطوة في طريق طويل، فقد أقرت مسألة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في العاشر من كانون الأول (ديسمبر) المقبل على أن يسبقها الانتهاء من إقرار الأسس الدستورية والقانونية لهذه الانتخابات بحلول 26 أيلول (سبتمبر) المقبل. على أنه قبل مناقشة صعوبات وتحديات خارطة الطريق هذه وما يمكن أن تسفر عنه، يلزم البدء بالإشارة إلى بُعد مهم في كيفية التعامل مع أي أزمة أو صراع دولي، ألا وهو التحديد الدقيق بأبعاد وجوانب هذه الأزمة لكي يمكن التعامل معها، ومن ثم بناء نماذج إدارة أو تسوية هذه الأزمة أو المشكلة إذا كان هذا ممكناً. ويمكن توصيف هذا المشهد في أبعاد عدة، أبرزها انتشار الميليشيات المسلحة والإرهابية في أنحاء البلاد، وبخاصة في الغرب والجنوب –بعد أن تقلّص وجودها بدرجة كبيرة في المناطق الشرقية– إذا اقتربت معركة تحرير درنة من هذه الميليشيات والتيارات من تحقيق أهدافها بدرجة كبيرة. والبعد الثاني هو عدم وجود حكومة مركزية متفق عليها بين الأطراف الليبية، فالحكومة المنبثقة من اتفاق الصخيرات برئاسة السيد فايز السراج لا تمارس أي سيطرة فعلية في الشرق أو الجنوب أو حتى الغرب ذاته، في ضوء هيمنة الميليشيات وتيارات الإسلام السياسي في طرابلس ومحيطها. هذان البعدان السابقان ليسا إلا نتاج مشهد أكبر سبق لنا تناوله وهو الصراع الدولي والإقليمي حول اكتساب النفوذ وتحقيق المصالح في ليبيا، ويختصر مفرداته الأيديولوجية في الصراع بين رؤيتين، إحداهما تريد فرض مشروع الإسلام السياسي أو التماشي معه،
ورؤية أخرى تعارضه، وفي النهاية هو صراع نفوذ ومصالح بين أطراف رأت أو لم تجد بديلاً في المرحلة الراهنة عن هذا المحور؛ يمكن أن يبرر تدخلاتها في ليبيا. معنى هذا أنه لكي يمكن التعامل مع هذا الصراع، أو هذه الأزمة، فإما أن ينتصر أحد طرفي هذا الصراع ويفرض إرادته مجبراً الطرف الآخر على التراجع والخضوع لإرادة الأول، أو يستمر الدوران في الدوائر، ومواصلة معطيات الأزمة السياسية الراهنة. ثم إن هذا الاجتماع الأخير يصطدم بإشكالية أخرى سابقة، وهو أنه يقر بعجز النظام الدولي عن تصحيح الخطأ الذي ارتكبه، ألا وهو اتفاق الصخيرات، الناتج من انحياز الوسيط الأممي برناردينو ليون لخيار إيجاد صيغة تعايش بين أنصار المشروع السياسي الإسلامي بميليشياته وبين معارضيه من دون أساس سياسي أو منطقي، ما أسفر عن هذا الاتفاق المشوّه الذي لم يتمكن من الصمود، والخيار الجديد الذي يتبناه المبعوث الأممي الحالي غسان سلامة مدعوماً بفرنسا التي قادت ودعت إلى هذا الاجتماع هو خيار الانتخابات.
وما وصل إليه سلامة هو البداية السليمة للخروج من الدائرة المفرغة، ولكنها بداية طريق بالغ الصعوبة، أول معالمه هو التوصل إلى الترتيبات القانونية والدستورية المقبولة من الأطراف الليبية، والتي حددها إعلان باريس يوم 26 أيلول (سبتمبر) المقبل. وهي ترتيبات يجب ألا تقتصر على القواعد والنظم القانونية المتبعة في هذا الصدد وإنما؛ وهو الأهم، التزام نتائج الانتخابات، وعدم تكرار ما حدث من تراجع دولي مؤسف عن احترام شرعية مجلس النواب الحالي الذي لجأ إلى طبرق فراراً من ضغوط الميلشيات. وهو شرط ضروري يجب أن يكون ضمن مداولات الترتيبات الدستورية والقانونية، بل لعلي أقول إن هذا الشرط البسيط والمنطقي والذي يجب أن يكون كالتعبير الإنكليزي ليس محتاجاً إلى القول، يجب أن يكون في الحالة الليبية وتجربتها الأليمة هو العنصر الأول الذي ينبغي إقراره والإصرار عليه من جانب المخلصين من الشعب الليبي والأطراف العربية الأكثر حرصاً على مستقبل الشعب الليبي.
كما يجب أن تتضمن الترتيبات القانونية للانتخابات ضمانات لانتظام العملية الانتخابية وعدم السماح للميلشيات والإرهاب بتهديدها أو ترويع المواطنين، وهي ضمانات أساسية في ضوء ضعف سلطة الدولة الليبية التي هي سبب تدخل المجتمع الدولي بهذا الصدد، آخذين في الاعتبار أن هذه القوى السياسية المتطرفة والمدعومة بالميليشيات قامت بالكثير من الإرهاب والترويع، ما أدى إلى تقلص المشاركات الانتخابية ثم لجأت بعد فشلها إلى القول بانخفاض نسب التصويت، كحجة لعدم قبول نتائج هذه الانتخابات. في جملة واحدة موقفهم هو إما أن نفوز أو لن نعترف بالنتائج. ولم يكن لموقفهم هذا أي وزن لولا تواطؤ بعض الأطراف الغربية وتركيا وقطر. وفي الحقيقة أن هذه الضمانات لا يمكن تنفيذها في شكل جاد من دون رؤية متكاملة من كل من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية بتطبيق نماذج مهام حفظ الأمن والسلم الدوليين متعددة الأبعاد والتي سبقت تجربتها في عدد من الأزمات الدولية ككمبوديا وهايتي وغيرها، وتشمل بالإضافة إلى الإشراف على تنظيم الانتخابات مسؤولية فرض نتائجها داخل ليبيا وخارجها، وهي مهمة ليست سهلة ولكنها مازالت ممكنة.
“الحياة اللندنية”