التفريط بالأمن المائي !
لقرون طويلة بقي العراق دولة بحدود جغرافية تمر به الانهار العذبة وتصب في وديانه وسهوله.. وبالتالي صارت هذه الدولة مصبا للرافدين الخالدين دجلة والفرات يشقان فيه طريقهما لالاف الكيلو مترات ثم يلتقيان في الجنوب ثم تنتهي رحلتهما في مياه الخليج العربي المالحة ..وتسبب مرور هذين النهران العظيمين في العراق اضافة لانهر صغيرة اخرى في تحقيق التنوع في مصادر الثروة فيه وانبعاث الحياة الاقتصادية مما جعل هذه الارض موردا لاطماع الامم الاخرى وشن الغزوات عليها خلال العصور القديمة..الا ان اكتشاف النفط في التاريخ الحديث اسهم في احداث تغييرات كبرى على مستوى الاهتمام بالدخل القومي وانفردت الثروة النفطية في العراق والدول الخليجية بتحقيق اعلى المكاسب المالية على حساب الثروات الاخرى الزراعة والصناعة والتجارة وخلافا للدول المجاورة للعراق ضمت اراضي بلاد الرافدين في باطنها كل مقومات هذه الثروات وفيما لم تشكل موارد النفط الا جزءا يسيرا من ميزانية العراق خلال النصف الاول من القرن العشرين الا انها كانت الركن الاساس في توفير الموارد المالية وبناء الاقتصاد في النصف الثاني من القرن العشرين والقرن الذي تلاه وتراجع الى حد بعيد الاهتمام بالزراعة والثروة الحيوانية والصناعات اليدوية وشهد ملف المياه والثروة المائية اهتماما متزايدا مع بروز الخلافات السياسية بين العراق وسوريا والعراق ودولتي المنبع لنهري دجلة والفرات وروافدهما ايران وتركيا خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات وكادت بعض التطورات ان تتحول الى حروب في حقب مختلفة حينما اقدمت هذه الدول الثلاث على استعمال المياه كورقة ضغط على الحكومة العراقية وتعرضت اجزاء واسعة من الاراضي الزراعية العراقية في الوسط والجنوب الى الجفاف جراء قطع مياه نهر الفرات منتصف السبعينيات فيما اسهمت الحروب التي شنها النظام السابق على جيران العراق في احداث تخبط كبير وممارسة سياسة مائية مرتجلة حرم فيها سكان الاهوار من الثروات المائية وتم تجفيف مساحات واسعة من البحيرات وتحويل مجرى الانهار واغفلت الحكومات المتعاقبة في صنع ستراتيجية للامن المائي في العراق تمنع او تضعف استعمال المياه كورقة ضغط من قبل الدول المجاورة ولم تقدر الاهمية البالغة لهذا المفصل الذي يشكل محورا مهما من محاور الامن القومي للدولة فيما اولت تركيا وايران لملف المياه اهمية كبيرة وشرعت ببناء السدود العملاقة والنظم وبدأت منذ سنوات طويلة تخطط لاستراتيجية تحقق التوازي بين الثروة المائية والثروة النفطية واستشعرت مبكرا مفهوم المعادلة الاقتصادية الجديدة (الماء مقابل النفط ) واذا كان الاعلان من قبل الحكومة التركية عن تشغيل سد (اليسو) جنوب شرق تركيا قد شكل هلعا كبيرا داخل العراق واستشعر ملايين العراقيين خطر وشبح الجفاف في ارض وادي الرافدين فان الاتهام واللوم يجب ان يوجه اولا للنظام السياسي في العراق قبل محاسبة النظام التركي فخلال هذه السنوات الطويلة لم تفكر اية حكومة عراقية في تنفيذ مشاريع كبرى لخزن المياه العذبة بما يلبي حاجة الارض والانسان في اجزاء واسعة من الوسط والجنوب خلال موسم الصيهود الذي تشح فيه المياه كل عام وبقي العراق يفرط بهذه الثروة ويهدرها في مياه الخليج العربي من دون اي تخطيط علمي او اقتصادي في وقت تم فيه انفاق مليارات الدولارات على مشاريع زائفة ووهمية ومشاريع ثانوية لم يجن من ورائها العراقيون مايحفظ امنهم الوطني وجرى التعامل مع ملف المياه بتهميش وجهل كبير مما عرض العراق الى مخاطر اقتصادية وبيئية محدقة متوقعة كان يمكن تلافيها منذ وقت طويل لو احسن المعنيون في اعلى هرم السلطة وفي وزارة الخارجية ووزارة الموارد المائية واللجان المختصة في مجلس النواب التعامل معها بوعي عميق ومعرفة وتخصص واحتراف.
د. علي شمخي
الصباح الجديد