انتخابات لمسارين
مشرق عباس
سيضطر العراقيون وسط كم هائل من التضليل والإرباك والتداخل إلى تحديد مسار شامل لبلادهم خلال الانتخابات التي ستجري السبت المقبل، من بين مسارات متعددة تجاوزت في هذه النسخة قضايا التمثيل المذهبي والقومي والحزبي، إلى اختيار نمط الحكم وأسلوبه، وطريقة النظر إلى المستقبل. وأزمة الاختيار في العراق مركبة بالفعل، ولم يسعَ طرف سياسي إلى فهمها بعمق لتسهيل مهمة الناخب، بل تعمد الجميع عبر سياسات وتحالفات خاطئة ومرتبطة إلى تشويش المشهد بديلاً عن توضيحه. فعلى مستوى الناخبين في المناطق الشيعية ساهمت التحالفات والتقاطعات السياسية في خلق حالة إحباط غير مسبوقة، من جدوى الانتخابات نفسها، وتم اختصار المشهد في كثير من الأحيان في صراع جناحَي حزب الدعوة (العبادي والمالكي) على السلطة، وعندما اختصر الصراع في رغبة حزب في الحفاظ على مكاسبه واستمرار استئثاره بمنصب رئاسة الحكومة ولم يترجم الى مسارات سياسية واضحة، تتعلق بمستقبل البلاد، فإن كلا الزعيمين ساهم في تضليل الشارع وأربك خياراته. وفي هذا النموذج تحديداً، يمكن ببساطة القول ان الساحة الشيعية يتنازعها مساران، الأول يتعلق بأسلوب الحكم الذي مثلته حقبة المالكي، وكان سيتعزز هذا المسار لو ان الأخير نجح في جمع الأطراف الشيعية المنسجمة معه في قائمة «الفتح» التي تمثل بعض فصائل الحشد الشعبي، او حتى من بين بعض المرشحين والأحزاب المنضوية ضمن قائمة «النصر» التي يقودها رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي، الذي لم ينجح بدوره في توضيح مساره السياسي بجمع أطراف مثل قائمة «سائرون» و «الحكمة» الى تحالف واضح.
لأكثر ارباكاً ان الأطراف التي تمثل المسارين المشار إليهما تطلق تسريبات عن نيتها التحالف مابعد الانتخابات، لكنها تهمل مجتمعة مقدار التضليل الذي خلفته لخيارات الناخب.
وليس بعيداً عن المسارين المشار اليهما، فإن الساحة السنية بدورها تخضع الى استقطاب ثنائي، احدهما يفهم التغيير في العراق ومع تغيير الواقع السني، بدعم احد المسارين الشيعيين الأكثر تأثيراً في شكل الحكم ونمطه، والآخر مازال ينظر الى الصراع السياسي من زاوية انتظار حسم الصراع شيعياً في الداخل قبل المضي الى فرض شروط واتفاقات مقابل مشاركة السنة في الحكومة المقبلة، وهو الأسلوب الذي طبق مراراً وأثبت فشله.
الساحة الكردية التي لم تغادرها تبعات الاستفتاء، تنقسم بدورها إلى مسار يدعم المضي خلف السياسة التي انتجت الاستفتاء وتداعياته، والتمسك بالخيارات الحزبية التقليدية التي حكمت مزاج إقليم كردستان للسنوات الماضية، أو البحث عن حلول كردية في نطاق حل عراقي شامل.
وعلى وفق هذه الثنائية يفتح المراقبون مجال التأويل للحديث عن ثنائيات (إيران – أميركا) أو (محور المقاومة – محور الاعتدال) أو (الإسلام السياسي – المدنية/ العلمانية)، لكن القضية على رغم التضليل تكتنف معادلات اخرى.
فمسار العبادي وحلفائه من الشيعة والسنة والكرد، سواء الحاليين او المتوقعين ما بعد الانتخابات، والذين يتحدثون عن ان انسجامهم ساهم في تحرير العراق من تنظيم «داعش»، وخلق حالة من الهدوء والثقة الإقليمية والدولية بمستقبل العراق، يتهم بأنه مسار أميركا، ودول الاعتدال العربي، والعلمانيين والمدنيين. ولكن هذه ليست الحقيقة كاملة، تماماً كما ان مسار المالكي والحشد الشعبي وحلفائهم الشيعة والسنة والكرد، ليس مساراً ايرانياً بالكامل، ولا يمثل محور المقاومة بالكامل، كما انه ليس ممثلاً للإسلام السياسي.
القضية تبدو أكثر تعقيداً إذا علمنا ان كلا المسارين يضمان قوى وأحزاباً وشخصيات تتمتع بعلاقات تنسيقية جيدة مع اميركا وإيران والدول العربية وتركيا وأنهما يضمان علمانيين وأحزاب الإسلام السياسي ايضاً، وفي مستويات اخرى يحتضنان فاسدين ومنتفعين ومجربين ايضاً.
ويبدو ان هذا التداخل هو نتاج مقصود، لمنع اكتساح مسار للآخر، وأيضاً منع تحول نظرية الحكم وأسلوبه وآليات عمله إلى متبنيات شعبية. ومع هذا فإن وضوح المسارين وتجربتهما السابقة مازالت قابلة للقياس، والمعادلة الثابتة حولهما تتعلق بمصالح العراق وشعبه، والناخب الحصيف قادر على رغم مستوى التضليل الذي احيط بالعملية الانتخابية، على معرفة اي مسار يحقق المصلحة الوطنية، وأيهما يعمل على تحقيق مصالح الغير.
“الحياة اللندنية”