ليس وليّ الفقيه
مشرق عباس
لم يتوقف الجدل منذ أسبوعين حول نية المرجع الديني علي السيستاني إصدار توجيهات حول عملية الانتخابات في العراق، تزامناً مع شائعات عن نيته إطلاق فتوى للملايين من مقلديه، بانتخاب أطراف وإقصاء أخرى، وأنه سيقلب المعادلات السياسية ويعيد رسم الخريطة من جديد.
لكن البيان الذي تلاه ممثل السيستاني في كربلاء عبد المهدي الكربلائي، لم يكن يتضمن أياً مما سبق، وإن لغته التي وصفت بأنها سياسية لا دينية كانت هادئة، ومنحوتة بعناية، وربما قابلة للتأويل إلى درجة أن الأطراف السياسية التي اضطربت خلال الأيام الماضية متوقعة أن يطاولها الخطاب سارعت بعد دقائق إلى إصدار بيانات تأييد، ومعظمها اعتبر أن البيان يمكن تفسيره لمصلحتها، ما سمح لبعض المراقبين باتهام السيستاني بأنه منح الفاسدين وغير الفاسدين حق استخدام خطابه انتخابياً.
واقع الحال أن السيستاني رفض من خلال خطابه المذكور أن يكون ولي فقيه العراق ليحدد مسارات الانتخابات، متمسكاً بذلك بفلسفة النجف التقليدية، التي تطورت خلال السنوات العشر الأخيرة لتصبح أكثر تحفظاً تجاه التدخل السياسي، وأكثر ميلاً للانعزال عن الطبقة السياسية، ماعدا أحداثاً نادرة من ضمنها دعم الانفتاح العراقي على المحيط العربي، حيث ساهم السيستاني فيه عام 2016 باستقباله رئيس الجمهورية الذي انطلق من النجف إلى المملكة العربية السعودية، وأكد معصوم في ما بعد أن السيستاني طلب منه العمل على تطوير العلاقات مع المملكة.
وفي الشأن السياسي أيضاً كان ثمة تداخل لرأي السيستاني عام 2014 في قضية الولاية الثالثة للمالكي، وقبلها كان أصدر فتوى «الجهاد الكفائي» التي اعتبرت حدثاً لافتاً ونادراً في تاريخ مرجعية النجف، وكل ذلك أعقب فترة انقطاع امتدت سنوات صاحبتها مراجعات لكل التدخلات التي أقدمت عليها المرجعية الشيعية منذ عام 2003 والتي واجه بعضها انتقادات كبيرة كالسماح باستثمار اسمها على يد قائمة «الائتلاف الوطني» في انتخابات عام 2006، التي نتج منها المجتمع السياسي الممسك بالسلطات المختلفة منذ ذلك الحين.
وعلى ذلك فإن هناك من افترض أن انتخابات عام 2018 تنتمي إلى المفاصل الإستراتيجية التي قد تكون مناسبة لتدخل النجف لتحديد المسارات، وبعضهم طالب بموقف واضح يتعلق بمنح الناخبين أسماء أو أحزاب محددة لانتخابها أو إقصائها.
والرأي أن السيستاني اختار بديلاً عن الانجرار مرة أخرى إلى التدخل في الانتخابات انتقاد قانون الانتخابات الذي اعتبره غير قادر على تغيير البيئة السياسية العراقية، وهذا الانتقاد ليس الأول من نوعه فقد سبق لممثل السيستاني في كربلاء ان طالب عام 2017 بإقرار قانون انتخابات عادل، وهو ما تغافلت عنه القوى العراقية التي تسارع اليوم إلى إبداء تأييدها كما تبالغ بترحيبها بـ «توصيات السيد»، وهي مستعدة في الوقت نفسه إلى ضرب تلك التوصيات بكل طريقة فيما لو لم تنسجم مع مصالحها.
كان لافتاً وفريداً أن السيستاني تحدث عن التداول السلمي للسلطة وعن الانتخابات والقانون كمسار وحيد للعراق، وعن الخيار السياسي الفردي المبني على القناعة الشخصية لا الفتوى الدينية باعتباره خياراً مقدساً، حتى أنه تخلى للمرة الأولى عن حض الجمهور على المشاركة في الانتخابات، واعتبر أن المقاطعة على ما تكتنف من مساوئ تنتمي بدورها إلى الفعل السياسي القانوني نفسه.
تلك القضايا الأساسية يمكن جمعها مع تبني السيستاني مفهوم «الدولة المدنية» الذي ورد نصاً في خطابات معتمديه، للحديث عن تبلور فهم أكثر نضجاً وعمقاً لدى المرجعية الشيعية، حول شكل العلاقة بينها وبين مؤسسات الحكم وأدواته، بعد عقود طويلة من الالتباس وسوء الفهم وأحياناً الارتباك بين العداء أو الانعزال أو الانغماس.
بالطبع إن التوصيات التي كانت منتظرة أكثر حول «المجرب لا يجرب» والموقف من «الحشد الشعبي» وتعريف «القوى الفاسدة» وضرورة التدقيق في المرشحين وزعماء قوائمهم وتجنب القوى المدعومة خارجياً، وذكر «الفاشلين في الحكم»، لايمكن فهمها بطريقة صحيحة من دون العودة إلى جوهر بيان السيستاني الأخير ورسالته الأساسية الجديرة بالدراسة، والتي ملخصها: «لستُ وليَّ الفقيه» والدولة التي يمكن أن تزدهر فيها مرجعية دينية تاريخية كمرجعية النجف هي «الدولة المدنية» التي يسوّرها القانون.
“الحياة اللندنية”