ماذا تبقى من كرسي الأسد بعد حرق البلد
حرق البلد بعد حرف العطف “أو” الذي يفيد التخيير بين بقاء الحاكم وبقاء البلد في شعار ضمان وجود الدولة السورية، يفسر مغزى الهجمات الفتاكة على المدن والمدنيين بالنابالم والبراميل المتفجرة وأسلحة محرمة دوليا.
وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس في كلمته أثناء اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ قال جملة مفيدة تؤكد استحالة أن يكون نظام بشار الأسد جزءا من الحل بعد استخدامه السلاح الكيميائي ضد شعبه. رغم أن كلمة “شعبه” فقدت مصداقيتها، لكنها تكفي بالغرض لموجبات الإدانة الدولية والتعبير عن لا مبالاة النظام بحياة الملايين من الشعب السوري.
تاريخ النظام بسيرته الدموية كان بمثابة تدريب واستعداد نفسي وميداني لمواجهة ثورة متوقعة يمكن أن تحصل اليوم أو غدا، بل إن بروفة الثورة الكبرى لم تكن ضلالة أو بدعة من ابتكار زهرة ياسمين تونس التي تضوعت، رغم الإخفاقات، برفض شعوبنا الانتحار على أعتاب مناهج وتعاليم الطغاة.
بقاء الحاكم إلى الأبد أو حرق البلد، ليس شعارا تعبويا، بل ديباجة فقه دستوري محفورة في الأداء العسكري والأمني والحكومي والسياسي والتربوي والإعلامي؛ وفكرة الأبد المقيدة بالحكم مدى الحياة نص واقعي جدا في الحياة السياسية منذ العام 1970؛ نص يلغي تهويمات الانتخابات والديمقراطية وما تكلفه الحملات الدعائية وهوس الترشيحات الثانوية لمجلس شعب أو إدارات محلية.
أي حوار بناء عن مرحلة انتقال سياسي لن يكون للأسد دور في نهايتها، هو من باب المعارضة، مجرد رفع عتب دبلوماسي لتجاوز اتهامات المجتمع الدولي بعدم الخبرة والحنكة في مجال السياسة والمرونة.
ازداد الأمر سوءا عندما استفردت روسيا فلاديمير بوتين وإيران علي خامنئي بمفاوضات أستانة رغم أنهما استفردتا أيضا برسم خرائط الدم على الأرض السورية.
وفود المعارضة قطعا لم يغب عنها المخطط الروسي الإيراني لإطالة أمد النظام في السلطة بتخدير مقررات جنيف وقرار مجلس الأمن بصددها في تزوير فج لصلاحية نظام منتهية منذ الأيام الأولى للثورة السلمية، إن كانت الديمقراطية تعني الاعتراف بالإرادة الشعبية.
ولأننا تحت سقف نظام يعاني من التوحد، نتفهم لماذا أعطى توكيلا مفتوحا مصدقا من مجلس “شعبه” لروسيا وإيران لحمايته والإنابة عنه في مجلس الأمن كغطاء سياسي مقفل باتجاه واحد لأن الهدف غير قابل للنقاش، لذلك لم تتهيأ للشعب السوري فرصة محادثات جادة خلال 7 سنوات من عمر الإبادة.
روسيا وإيران تلبستا جنون النظام في سوريا لتحقيق مآرب بمرجعيات فكرية متناقضة، لكنهما توحدتا في إجرام عدوانهما الثلاثي على الشعب السوري باستغلال تغافل القانون الدولي والإنساني ربما لمعرفتها المسبقة بطبيعة النظام الدموية، ولإدراكهما أن لحظة الحقيقة لا ريب فيها، بما تعنيه من انسحاب وترك النظام ليواجه مصيره متحملا أوزار جرائمه وجرائم حلفائه.
حرق البلد بعد حرف العطف “أو” الذي يفيد التخيير بين بقاء الحاكم وبقاء البلد في شعار ضمان وجود الدولة السورية، يفسر مغزى الهجمات الفتاكة على المدن والمدنيين بالنابالم والبراميل المتفجرة وأسلحة محرمة دوليا، عدا الأسلحة التقليدية من مدفعية وراجمات وقصف أيديولوجي وعقائدي وتغيير ديموغرافي وحصار وتجويع وسجون وتعذيب وتغييب.
هل بعد حرق سوريا من ذنب؟ وهل السلاح الكيميائي إلا ذنوب صغيرة على الساحة السورية؟ ذنوب لا ترى فيها روسيا وإيران إلا علاجات برد وزكام يعاني منها النظام بعد صدمة ثورة الشعب السوري التي هزت أركان نظام الأبد الفاشي.
روسيا وإيران تلبستا جنون النظام في سوريا لتحقيق مآرب بمرجعيات فكرية متناقضة، لكنهما توحدتا في إجرام عدوانهما الثلاثي على الشعب السوري باستغلال تغافل القانون الدولي
صديق مقرب إلى نفسي ألجأ إلى تجربته الإنسانية في وصف تقطيع أوصال الجسد السوري عندما يكتب في مذكراته اليومية “وصلت إلى الشام، أقصد دمشق، بعد أن تجاوزت محنة الموت الجماعي في الأيام الماضية، ولهول القصف العشوائي بمختلف صنوف الأسلحة على مدار الدقائق تدحرجت المباني والحياة وتحولت تلك الضيعة الوادعة، التي تبتعد مسافة نصف ساعة عن العاصمة، إلى عيون معلقة بصمت مقبرة وشارع وحيد مغلق باحترام الموت. انتظرت لأكثر من أسبوع أن يسألني أحـدهم عن وقائع الحرب ولهفة الاطمئنان على الناس، لكن لا أحـد سوى رجل مجهول دفعته المجاملة ربما ليسألني دون اهتمام: هل حدث شيء هناك”. كان ذلك التاريخ في فبراير 2012.
طوق من عزلة يصنعه إرهاب السلطة على الإعلام والفضاء والاتصالات والمعلومة وحساب الكلمات وتهورها ولو بالدموع والبكاء في رسائل نصية؛ لإنسانية النظام تعليمات غاية في الوضوح ليست آخرها فقرة السلاح الكيميائي الذي بتر وقطع أنفاس المواطنين بغازات الموت الرحيم المفاجئ.
لو تخيل المجتمع الدولي المأساة السورية على طريقة وزير الخارجية الألماني لتأكد أن تقسيط الهجوم على حلب أو أي مدينة سورية منكوبة، إذا تم تجميعه بسلة ضربة واحدة لكانت النتيجة فاجعة على صعيد رد الفعل الإنساني لشعوب وقادة العالم وأيضا على صعيد السياسة ودور مجلس الأمن.
كسل وترهل وتخمة بعد شراهة اقتصاد الدول الكبرى بما يدفع إلى التساؤل عن سذاجة التفريق بين إرهاب تنظيمات متطرفة، وإرهاب منظم لحكام يتلاعبون بالسلم المحلي لدولهم وإقليمهم ويعرّضون الأمن العالمي ومصير البشرية إلى مجازفة ليست بعيدة جدا عن التوقعات، والأدلة في ضمانات استمرار نوع الكائنات وبنوك بذور المحاصيل الزراعية المحفوظة في ظروف مناخية قطبية.
الهجوم التكتيكي الثلاثي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا ردا على هجوم النظام الكيميائي في دوما، هو هجوم بمجمله “خلّب” على مباني خلب فارغة من مكونات الأسلحة الكيميائية.
مع كلمة الرئيس دونالد ترامب نستمر في رسم توصيلة بين هدوء ما قبل وما بعد الهجوم الثلاثي؛ أي توصيلة أميركية بالتهديد والتوقيت والتنفيذ لاستعادة التوازن في مسار الأزمة السورية مع روسيا في فرشة تسويات تغطي على مثالب عقود من الإخفاق في منطقتنا، بما يعطي الانطباع إن ثمن الدماء السورية والعربية مفتاح لمغاليق الأزمات الدولية الخطيرة مثل كبش الفداء النووي في هيروشيما وناكازاكي الذي أسدل الستار على الحرب العالمية الثانية.
الرأي العام للمواطن السوري والعربي والإنساني يتبرم بالتدرج من اختصار العقاب كرد فعل تجاه الهجمات الكيميائية للنظام، لأن قرار إحراق سوريا جاء بإرادة مجلس شعب منتخب بديمقراطية أسرة حاكمة وبدعم روسي إيراني لتكريس تطبيق معادلة لا دور فيها للشعب إلا بالاختيار بين عبوديته أو الموت.
الحل السياسي كان دائما هرولة تقطعت فيها أنفاس المعارضة، لكن مع حاكم للأبد كيف تستقيم المفاوضات والحل؟ وماذا عن القادم بعد دوما في إدلب من حشر وتخزين للفصائل المسلحة وزج 3 ملايين ونصف مليون مواطن في زاوية تهديد علني من علي أكبر ولايتي مستشار خامنئي بمجازر أخرى، نبه العالم لكارثتها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، وبتوقيت تصعيد خفي ومعلن من أقطاب الطائفية في العراق بما يسبق انتخابات مايو المقبل، لتبريرهم بأن إدلب بؤرة لمن يشملهم قانون الحاكم المدني الأميركي بول بريمر للاجتثاث الذي يخضع لتجاذب نماذج سلطات تنتهي غالبا بأشلاء الكراسي ورماد الحرائق.
حامد الكيلاني