اراء و أفكـار

الشريان المقطوع

بقلم الدكتور مدحت محمود
تلقيت قبل يومين نبأ استشهاد صديقي العزيز استشاري الأشعة التشخيصية د.هشام شفيق مسكوني وزوجته د.شذى مالك ووالدتها على يد ثلة من المجرمين في داره الواقعة في منطقة المشتل في بغداد.

تمتد صداقتي مع هذا الرجل الطيب القلب الى سنوات شبابنا في الثمانينات حتى اني كنت حاضرا في حفلة زواجه في نادي النفط في بغداد . مازلت اتذكر اللمسات الراقية والذوق الرفيع في مفردات تلك الحفلة كعادة اخواننا مسيحيي العراق في أفراحهم ومناسباتهم . وكنت كذلك اول المهنئين له بولادة ابنه البكر الذي اسماه الحَكَم وهو اسم غير شائع لدى مواليد الثمانينات ان كانوا مسلمين او مسيحيين .

مازحته متسائلا عن سبب تسمية ابنه البكر بهذا الاسم الغير مألوف في هذا الزمان فأجابني انه فعل ذلك تيمنا بثالث أمراء الدولة الأموية في الأندلس الحكم بن هشام … فأجبته ولكنك سوف تُكنّى بأسم أبا الحكم وهو بطبيعة الحال نفسه ابو جهل فضحك وقال وهل تعتقد ان شكلي يشبه ابا جهل ؟؟؟…
فقد كان د.هشام أشقر البشرة والشعر والشوارب و ذَا عينين زرقاوين حتى انك تخاله اوروبيا .

هذا هو مثال بسيط على خيوط النسيج الاجتماعي المتين التي تربط مسيحيي العراق بالتراث العربي الذي عاشوا فيه … لدي الف سبب لأجزم ان هشام رحمه الله لو اختار ان يترك العراق بعد عام ٢٠٠٣ ليعمل خارجه في حقل اختصاصه في الأشعة التشخيصية لنجح في ذلك حتما لانه كان طبيبا متميزا في اختصاصه … وقد اخبرني البارحة احد أصدقائنا المشتركين انه نصحه بذلك خوفا على حياته بعد موجة استهداف الأطباء ولاسيما المسيحيين ولكن يبدو ان رومانسية الانتماء و الجذور التي تربط المخلصين لتربة العراق هي أقوى مما نتخيل .

اتذكر انني في عام ١٩٩٥ تعرضت الى حادث سقوط اثناء ممارستي لعبة التنس فأتصلت بهشام فورا وأخبرته قلقي من احتمال حدوث كسر في ذراعي فطلب مني التوجه فورا لعيادته في شارع المشجر في السعدون حيث استقبلني بحفاوته المعهودة واجرى لي فحص الأشعة فأكد لي حدوث الكسر.. ومن عيادته اتصلت بصديقي الرائع د. بشار شاكر فطلب مني التوجه فورا لمستشفى الطواريء الواقعة في الصرافية حيث اجرى لي تجبير للكسر في دقائق . يا سلام على هذا الدلال الذي كنا ننعم فيه في بغداد،، نُصاب بحادث فيهرع الأصدقاء والأحباب لنجدتنا… والله لو حدث لي نفس الحادث في اي بلد في العالم لبقيت ساعات في صالات الطواريء اتعرض ( للجرجرة والعرعرة ) الى ان يتم إسعافي .

كلما اتخيل خارطة العراق اتخيل انها شريان كبير مقطوع ينزف بلا توقف ،،، شريان لا يمتلك آلية الخثرة التي توقف شلال الدم الذي يتدفق بغزارة مخيفة فاقدا للطيبين من ابنائه لا لذنب اقترفوه سوى تمسكهم بالبقاء في ذلك البلد الذي تدور فيه دائرة الشر بعنفوان عجيب .

مهما كانت الأسباب التي أدت الى ان يسقط ذلك الطبيب الجليل مضرجا بدمائه مع أفراد عائلته طعنا بسكاكين الاوغاد … كأن يكون الدافع لقتلهم هو السرقة او لكونهم مسيحيين وليست هناك مليشيا يحتمون بسطوتها او رجال شرطة و أمن تقتص من المجرمين وتفرض هيبة الدولة في الشارع … لقد غاب الأمان وطارت الطمأنينة من قلوب العراقيين الذين آثروا البقاء هناك . علمت يوم امس ان هناك قداسا أقيم قبل يومين في احدى كنائس بغداد للصلاة على ارواح ثلاثة من المسيحيين ولم يحضر ذلك القداس سوى ثلة من المعزين خوفا من ان تستهدف الكنيسة بموجة جديدة من رياح العنف والشر .

أعلم يا صديقي الوفي هشام ان روحك الطاهرة صعدت تشكو لبارئها ظلم الانسان لاخيه الانسان … اني اشهد والله انك لم تؤذي نملة في حياتك وأنك لا تستحق أبدا ان تزهق حياتك بهذه الطريقة البشعة بعد ان تجاوزت فيها الستين من العمر عالجت خلالها الآلاف من المرضى .

ستبقى ذكراك عطرة في نفسي وكل أصدقائك ومحبيك أيها الانسان الطيب الرقيق .

مقالات ذات صلة