إرهاصات في المشهد السياسي العراقي
د. محمد عاكف جمال
يبدو أن رحلة الاستقرار في العراق ستكون طويلة الأمد إلا أنها ليست لا نهائية فالرهان على إسقاط العملية السياسية لم يعد يلقى ما كان يلقاه قبل سنوات من قبول لدى بعض النخب السياسية، التنافس في البرامج الإنتخابية أصبح المسار الوحيد للوصول إلى المسرح السياسي.
يبتدئ فصل جديد في هذه الرحلة كل أربع سنوات حيث تجرى انتخابات تشريعية سبق أن احتشد الناخبون في ثلاث مناسبات منها وراء شعارات وبرامج براقة ليكتشفوا بعد فوات الأوان مدى خيبتهم بخواء من وقفوا وراءه أحزاباً وبرامج. فصل جديد من هذه الرحلة التي أصبح عمرها خمس عشرة سنة ننتظر إطلالته في مايو المقبل بترقبات متباينة بين التفاؤل الحذر بالتغيير أو التحفظ عليه.
لا يمكن تجاهل الثقل الذي يشكله كل «مُكون» من الشعب العراقي في تقرير مصير بلده في أي تحليل سياسي للمشهد الإنتخابي، إلا أنه يبدو وللوهلة الأولى أن الصراع الآيديولوجي العرقي والمذهبي بين الكيانات السياسية لهذه «المُكونات» قد تراجع بعض الشيء لصالح صراع سياسي أضعفها جميعاً وعمل على تصدعها وأصبح بعضها يباعد نفسه عن مواقفه السابقة ويتحدث عن «الدولة المدنية» بعد أن كان يسوق نفسه انتخابياً بمرجعيات إسلامية.
إلا أن شيوع الحديث عن «الدولة المدنية» في الوسط السياسي شيء والعمل على تأصيل هذا المفهوم وجعله صمام أمان ضد الجنوح نحو تيار سياسي بحلة عسكرية أو عرقية أو دينية شيء آخر. فبعض الكيانات التي ترفع شعاراً كهذا قد لا تكون بالضرورة أمينة على تطبيقه.
لم يدخل مفهوم «الدولة المدنية» المعجم السياسي العراقي ويصبح قيد التداول إلا حديثاً إذ ليس لدى الساسة العراقيون إرثاً سياسياً – اجتماعياً – ثقافياً حوله أو حول مفاهيم أخرى ذات صلة مثل «منظمات المجتمع المدني». مفاهيم من هذا النوع وهذا الوزن تتطلب أجيالاً من أجل أن تترسخ في ثقافة الفرد وتترك آثارها وانعكاساتها على حياته وحياة مجتمعه وتتجلى في فنونه وآدابه. فإذا أردنا أن نلقي بعض الضوء على معالم «الدولة المدنية» لا نجد ما يسعفنا، فعلى المستوى الأكاديمي العالمي لا يوجد هكذا مفهوم.
مفهوم «الدولة المدنية» قدر أهميته في العلوم السياسية له أهمية لا تقل عن ذلك في العلوم الإجتماعية، إلا أن هناك غموضاً يكتنفه إذ لم تتداوله الأوساط الأكاديمية العالمية لتقلبه على مختلف الأوجه وتقارنه بالنماذج الأخرى للدولة، الدولة العلمانية والدولة الحديثة، التي تتعامل معها بل اقتصر الإهتمام به وبشكل محدود على بعض ما نشر في الأدبيات السياسية والإجتماعية العربية الحديثة، فهو حديث الولادة ترجع بدايات الدعوة له عراقياً إلى العام 2008 بالنداء الذي أصدرته مجموعة من العراقيين ينتمون لمواقع مختلفة سياسية واجتماعية وثقافية لبناء الدولة المدنية في العراق بديلاً لدولة الميليشيات والطوائف وللخروج من حالة التناحر والإنفلات الأمني التي شهدتها تلك الفترة. إلا أن الطريق لم يكن سالكاً للمضي قدماً في تحويل هذا النداء إلى مادة تناقش بجدية واهتمام في الأوساط الفكرية والسياسية إذ لم نشهد حوارات معمقة حول طبيعة هذه الدولة وصيغ بنائها وأدوات حمايتها مما جعل الحديث عنها يقتصر على العموميات.
المشهد الإنتخابي العراقي يشهد تغيرات مثيرة فدخول قوى ذات توجهات دينية في تحالفات مع قوى علمانية يثير قلق الأوساط التقليدية التي تسيدت المسرح العراقي على مدى الخمس عشرة سنة المنصرمة فهو مؤشر مهم على مدى عزلتها، فهناك توجه جارف لم يعد يخفى على المتابع لنبض الشارع العراقي نحو التمرد على هذه الأوساط والخروج من عباءة السرديات اللاهوتية التي تخدم مصالح بعض دول المنطقة، فالعراق عبر تأريخه الحديث كان دوماً أكبر من أن يدور في فلك آخرين.
مولد دولة مدنية بأبسط أشكالها، دولة تتبنى مبدأ المساواة بين أبنائها بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الجنس أو اللون أو المنطقة، دولة تُعنى بالإنسان بحياته بدُنياه وتوظف موارد البلد المادية والبشرية لهذا الغرض يعتبر حدثاً مهماً في تأريخ العراق منذ ما يزيد على النصف قرن. إلا أن هناك مخاوف ومخاطر حقيقية حول قدرتها على الصمود لضعف أو عدم وجود البنى السياسية والفكرية والثقافية الصلدة أو ما يعرف بـ «الدولة العميقة» التي تضمن تطورها وديمومتها.
نقلا عن “البيان”