الاستراتيجية النووية الأمريكية
محمد خليفة
الولايات المتحدة كانت في العقد الماضي تتسيّد الموقف الدولي من دون منازع، وكانت كلمتها مسموعة من قبل مختلف الدول، ولكنها الآن أصبحت عاجزة حتى عن تحقيق الانسجام الداخلي بين التيارات السياسية فيها، وفي مسعى من المحافظين الجدد الذين يحكمون قبضتهم على الكونجرس، لإعادة الهيمنة الأمريكية على العالم، فقد جيء بالرئيس دونالد ترامب، من أجل تحقيق هذا الهدف، لكن ليس عبر زيادة الإنتاج والكفاءة الاقتصادية، بل من خلال تبني استراتيجيات نووية جديدة هي بمثابة إعلان حرب ليس على بعض الدول المعادية فقط، بل على العالم أجمع.
ففي 2 فبراير/ شباط الماضي، صدر استعراض وزارة الدفاع الأمريكية حول الموقف النووي، الذي جاء في 65 صفحة، وهو يحدد موقف الولايات المتحدة من الأسلحة النووية، واستخدامها. وجاء في الوثيقة أن «الإنفاق على قدرات الردع النووي يشكل حالياً نحو 3% من الميزانية العسكرية السنوية (التي تساوي في الولايات المتحدة قرابة 700 مليار دولار). ويتطلب التمويل الإضافي مبلغاً يتراوح بين 3-4% خلال أكثر من عشر سنوات لاستبدال الأنظمة المتقادمة». وتقترح الوثيقة تحديث «الثالوث النووي» للولايات المتحدة الذي يتضمن الطيران الاستراتيجي، والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والغواصات الحاملة للرؤوس النووية. وتشير الوثيقة إلى أن إدارة ترامب تخطط لزيادة عدد القنابل النووية المنخفضة القوة من أجل تعزيز القدرة على الردع النووي، حيث سيتم تقليص قوة القنابل النووية مع زيادة مداها، وعلى وجه الخصوص، تزويد الصواريخ الباليستية النووية العابرة للقارات من طراز Trident
والمثبتة على الغواصات النووية بالرؤوس النووية الجديدة، وهو ما سيتيح تحويل تلك الصواريخ إلى سلاح نووي تكتيكي، في واقع الأمر. واعتبرت الوثيقة أن «القدرات العسكرية المتنامية لروسيا، فضلاً عن إمكانات الصين وكوريا الشمالية وإيران، تشكل التهديد الخارجي الرئيسي لأمن الولايات المتحدة».
وهذه الوثيقة تشير، بشكل رسمي، إلى أن الولايات المتحدة سوف تعتمد على الأسلحة النووية التكتيكية لقمع الخصوم من دون الحاجة إلى الدخول في حرب تقليدية يتعارك فيها جيشها مع الجيوش المعادية. وفي الاستعراضات السابقة للموقف النووي، تم اعتبار الأسلحة النووية غير صالحة للاستعمال إلا في حالة الانتقام من هجوم نووي. وكان الافتراض أنه لا أحد سوف يستخدمها. وكان هناك دائماً احتمال أن تحذيرات كاذبة واردة من قارات أخرى من شأنها أن تؤدي إلى الضغط على الزر النووي، وبالتالي تدمير مدن كثيرة وقتل ملايين البشر، وكان هناك العديد من التحذيرات الكاذبة خلال الحرب الباردة. ولذلك فتحت القوتان العظميان، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق، بينهما خطاً ساخناً من أجل معالجة مثل تلك التحذيرات. ويشكل الموقف النووي الأمريكي الجديد خروجاً عن المألوف من قبل دولة تدعي أنها ترعى الأمن والاستقرار في العالم، وتدافع عن قضية عدم الانتشار النووي، كما أن هذا الموقف غير مسؤول لجهة أنه لم يأخذ في الحسبان قدرات الخصوم واستعداداتهم، فقد رأى العالم أجمع كيف أن دولة صغيرة مثل كوريا الشمالية وقفت تتحدى الولايات المتحدة من دون خوف، ما اضطر هذه الأخيرة إلى اللجوء إلى مجلس الأمن لفرض عقوبات اقتصادية وزيادة المقاطعة المفروضة أصلاً على كوريا منذ أكثر من عشر سنوات. ولو كان بوسع الولايات المتحدة توجيه ضربة ماحقة ضد هذه الدولة لفعلت، لكنها تعلم أنها إذا فتحت أبواب النار، فإنها لن تستطيع أغلاقها..
ذلك أن الحرب النووية لها قواعد خاصة مختلفة تماماً عن الحرب العسكرية المعروفة. فالحرب النووية هي عبارة عن ضربة استباقية واحدة يتم توجيهها إلى العدو بهدف تدمير منظوماته العسكرية والاقتصادية والسياسية للقضاء عليه قضاء مبرماً، وإذا نجحت تلك الضربة الاستباقية فعند ذلك تنتهي الحرب من دون أن تتكبد الدولة التي تقوم بها، أية خسائر. لكن هل تستطيع الولايات المتحدة، مثلاً، توجيه ضربة استباقية ضد روسيا، والصين، أو حتى كوريا، وهي الدول المصنفة على رأس قائمة أعدائها، من دون أن تفعل هذه الدول أي شيء؟ إن الواقع يقول، إن الضربة الأولى الاستباقية لا يمكن أن تحدث بالصورة التي يخطط لها الأمريكيون، لأن هذه الدول لديها أنظمة الإنذار المبكر، ولديها القدرة على توجيه السلاح النووي إلى أية بقعة في العالم، وقد تتلقى بعض الضربات النووية، في البداية، لكنها ستقوم بالرد وستضرب الولايات المتحدة التي لن تكون هذه المرة في منأى عن التدمير. ولذلك فهي تلجأ اليوم إلى «خيار شمشون» لتدمير نفسها وتدمير أعدائها في الوقت نفسه.
نقلا عن الخليج