نساء إيران يعلنّ الحرب على “الولي الفقيه”
بشير عبد الفتاح
أبت المرأة الإيرانية إلا أن تسطّر لنفسها دوراً ملموساً في مسيرة الحراك الثوري التي تزلزل أركان البلاد منذ حركة محمد مصدق عام 1953، مروراً بالثورة التي أطاحت نظام الشاه عام 1979، وما تلاها من موجات ثورية طيلة العقود الأربعة المنقضية، وصولاً إلى احتجاجات كانون الأول (ديسمبر) الماضي وملحقاتها التي استجدّت مع مطلع الشهر الجاري، والتي ترمي جميعها إلى تصحيح المسار وإقامة دولة مدنية ديموقراطية متصالحة مع محيطها الإقليمي والعالم. ذلك الحراك اعتبرته الناشطة شيرين عبادي، صاحبة النضال الطويل ضدّ القمع وسياسة التمييز ضد النساء الإيرانيات والتضييق عليهن، بداية لحراك جماهيري ممتد، يؤجّجه نفاد صبر شبان إيران وشاباتها على تحمُّل وطأة خيبات الأمل المتكررة والمعاناة المتواصلة جرّاء سياسات نظام الملالي التي تفضي إلى إعادة تدوير الفقر والفساد والقمع والتمييز.
بالتوازي مع الدور النضالي اللافت التي تضطلع به منذ عقود نساء إيرانيات مناهضات لنظام «الولي الفقيه» من خارج إيران على شاكلة مريم رجوي؛ رئيسة «المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية»- الجناح السياسي لمنظمة «مجاهدين خلق» المعارضة، وزهراء مريخي التي انتخبت في أيلول (سبتمبر) الماضي أميناً عاماً لتلك المنظمة، اتجهت المرأة في الداخل الإيراني إلى التعبير عن رفضها نظام الملالي وسياساته التمييزية والإقصائية حيالها. فمن جهة، عمدت نساء إيرانيات إلى تحدي الأعراف التي تقيد حرية المرأة في اختيار لباسها استناداً إلى القانون الذي يفرض على المرأة الإيرانية منذ ثورة 1979 وضع غطاء للرأس وارتداء ملابس تستر الجسم في الأماكن العامة، وإلا عوقبت بالحبس لمدة شهرين ودفع غرامة قدرها 50 ألف تومان، أي ما يعادل نحو 15 دولاراً أميركياً. فمنذ أيار (مايو) 2014 تشهد إيران ما اصطلح على تسميته إعلامياً بـ «انتفاضة حاسرات الرؤوس»، التي أطلقت شرارتها مجموعة نساء من شتى أنحاء البلاد، حينما نشرن صوراً شخصية لهن بغير حجاب على «فايسبوك» تحمل عنوان «لحظات حرية مسروقة». وإبان مشاركتهن في فعاليات الموجة الثورية التي اندلعت نهاية كانون الأول (ديسمبر) الماضي، قامت باقة من النساء بخلع الحجاب وارتدين ملابس بيضاء بدلاً من الشادور الأسود؛ احتجاجاً على فرض نمط معين من اللباس عليهن، وحينما تجدّدت التظاهرات مطلع الشهر الجاري، تكرر خلالها ذلك المشهد النسائي الاحتجاجي المثير.
بمنطق القمع والتخوين الذي دأبت على اعتماده في التعاطي مع الموجات الثورية التي تلت ثورة العام 1979 طيلة العقود الأربعة المنقضية، تعاملت السلطات الإيرانية مع «انتفاضة حاسرات الرؤوس». فقبل نهاية العام الماضي، هرعت شرطة الآداب إلى توقيف فتاة عشرينية تدعى ويدا موحد، بجريرة كشفها عن رأسها في شارع مكتظ وسط طهران وتعليقها حجابها على عصا طويلة ثم تلويحها به على الملأ، مطالبة بإلغاء القيود على حرية المرأة في اختيار ملابسها. وهو الإجراء الذي أتى بنتائج عكسية، إذ أفضى إلى اتساع حركة الاحتجاج على فرض غطاء الرأس. فاعتقال الفتاة والزج بها خلف القضبان لنحو شهر، فجّر موجة تأييد عارمة لخطوتها الجريئة من قبل آلاف الناشطات اللائي أكدن عبر مواقع التواصل الاجتماعي مواصلتهن الثورة ضد غطاء الرأس. ولم تكد تمضي أشهر، حتى قامت نحو ثلاثين امرأة بالكشف عن رؤوسهن في أماكن عامة في العاصمة طهران خلال التظاهرات التي تجدّدت، ما دفع شرطة الآداب إلى اعتقالهن وتقديمهن للمحاكمة بتهمة «الإخلال بالنظام الاجتماعي»، لتغدو «ويدا» رمزاً لما يعرف بـ «حركة الأربعاء الأبيض»، التي أطلقتها في أيلول (سبتمبر) الماضي، ناشطة إيرانية مقيمة في واشنطن تدعى معصومة مسيح علي نجاد، وهي مؤسسة موقع «حريتي المسلوبة»، والتي نفت بدورها اتهامات السلطات الإيرانية للحركة بأنها صنيعة خارجية، مؤكدة أنها انطلقت من إيران قبل سنوات رداً على الاضطهاد الذي تعانيه المرأة والذي تجلى في تهميشها سياسياً وإقصائها إدارياً. ويشار هنا إلى أن تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2013، أكد تعرض النساء الإيرانيات للتمييز أمام القانون وما يتعلق بالممارسات السياسية وما يتصل بالزواج والطلاق، والميراث، وحضانة الأطفال، والجنسية، والسفر إلى الخارج.
ومن جانبها، أرجعت السلطات الإيرانية «انتفاضة حاسرات الرؤوس» إلى مؤامرات أو تدخُّلات خارجية، إذ أعلن المدعي العام جعفر منتظري أن موقف بعض النساء الإيرانيات الرافض للحجاب إنما جاء بتأثير من الخارج. فيما نقلت وكالة أنباء «تسنيم» عن رئيس شرطة طهران أن هذه الأفعال تم التحريض عليها من أجانب، واصفاً المتظاهرات ضد الحجاب بـ «المخدوعات». وفي نيسان (أبريل) 2014 وفي رد منه على دعوة الرئيس روحاني أثناء خطاب متلفز خلال «المنتدى الوطني لريادة النساء لمجالي الاقتصاد والثقافة» لمناسبة يوم المرأة، إلى ضرورة تحقيق المساواة في الواجبات والحقوق بين الجنسين، دان القائد الأعلى، آية الله علي خامنئي، دعاوى المساواة بين الجنسين معتبراً إياها «أحد أكبر أخطاء الفكر الغربي».
ومن جهة أخرى، امتد رفض نساء إيران نظام «الولي الفقيه» وسياساته التمييزية بحقهن ليطاول التابو الخاص بإمكانية الترشح للانتخابات الرئاسية، التي لا يحق للمرأة خوضها بموجب المادة 115 من الدستور، التي تنص على أن المرشح للرئاسة يجب أن يكون «رجل سياسة» ذو خبرة في العمل العام، ويتمتع بخلفية دينية عميقة، ويتحلى بالتقوى، وأن يكون جديراً بالثقة ويؤمن بمبادئ الجمهورية الإسلامية. فبينما تميل ناشطات إيرانيات، إلى تفسير مصطلح «رجل» الوارد في نص هذه المادة على أنه يشمل «الرجال» و «النساء»، ومن ثم لا يجدن محاذير أمام ترشُّح النساء للرئاسة، يفضّل الكثير من الخبراء القانونيين وأعضاء مجلس صيانة الدستور اعتماد الترجمة الحرفية العربية للمصطلح بحيث يقتصر على الرجال فقط من دون النساء. وبناء عليه، قضت هيئة دستورية إيرانية في أيار (مايو) 2013، بعدم أحقية النساء في الترشُّح للانتخابات الرئاسية.
ومع ذلك، تحدّت المحامية والصحافية أعظم طالقاني؛ كريمة آية الله طالقاني، الذي رافق الخميني أثناء الثورة على الشاه كما كان إماماً لأول صلاة جمعة في عهد الجمهورية الإسلامية، نص المادة 115 من الدستور والأحكام القضائية المترتبة عليها، وتقدّمت في عام 1997 للترشح لخوض السباق الرئاسي. وبينما رفض مجلس صيانة الدستور ترشحها، إلا أنها لم تستسلم وعاودت الكرة عام 2001 ولاقت تجربتها المآل ذاته. غير أن تجربة طالقاني صارت ملهمة لنساء إيرانيات، حيث شجّعت الكثيرات منهن على الترشُّح في الاستحقاقات الرئاسية التالية أعوام 2009، 2013، و2017.
وبينما صادر مجلس صيانة الدستور حقهن في خوض السباقات الرئاسية، إلا أن إصرارهن على تحدي تلك الممارسات والإجراءات الإقصائية كان كفيلاً بتوصيل صوتهن الرافض، بكل ما أوتي من قوة، لصور القمع والتمييز حيالهن، إلى مسامع العالم، علاوة على توجيه رسالة تحدٍّ وتحذير شديدة اللهجة لنظام «الولي الفقيه»، تتلاقى بدورها مع تلك التي أطلقها الرئيس حسن روحاني مطلع الشهر الجاري خلال كلمة استهلالية لاحتفالات الذكرى التاسعة والثلاثين للثورة، حينما حذّر نظام الملالي من مصير مشابه لذلك الذي آل إليه نظام الشاه.
* كاتب مصري
عن الحياة اللندنية