واشنطن باقية في سوريا.. من يعترض؟
د. محمد عاكف جمال
قلة من المتابعين للشأن السياسي في الشرق الأوسط لم تتوقع ما صدر عن الإدارة الأميركية على لسان وزير خارجيتها عن عزم واشنطن الإبقاء على حضورها العسكري في سوريا لحين الوصول إلى تسوية سياسية حول الأزمة السورية وفق مسار جنيف.
وقد تزامن مع هذا إعلان التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة عن تشكيل قوة أمنية قوامها ثلاثون ألف مقاتل من قوات سوريا الديمقراطية التي تنضوي تحت إمرته للانتشار على الحدود مع تركيا ومع العراق.
الإعلان الأميركي هذا غير معادلات التوازن على الأرض في الساحة السورية وأربك حسابات روسيا وإيران وتركيا، وهو ليس إجراءً تكتيكياً تتخذه واشنطن في سياق المناكفات المستمرة مع هذه الدول في المسرح السوري كما قد يتصوره البعض بل على الأرجح جزء من استراتيجية جديدة ليس في الشرق الأوسط بل في العالم لمواجهة صعود روسيا والصين المقلق لواشنطن.
فالولايات المتحدة تعمل على عدم السماح لروسيا باستخدام سوريا منصة لتعزيز صعودها الدولي سياسياً وعسكرياً بالانفراد بتقرير مستقبلها ولن تمكنها من أن تجني سياسياً قدر ما جنت عسكرياً من ثمرات. هذه الاستراتيجية لا تتعلق بشكل مباشر بقضايا المنطقة قدر تعبيرها عن التماهي مع رؤية إدارة الرئيس ترامب لما ينبغي أن تكون عليه معالم النظام العالمي الذي ترى أنها اهتزت كثيراً بسياسات سلفه أوباما.
سبق أن عزا محللون سياسيون غض واشنطن الطرف عن التغلغل الروسي في سوريا إلى كونها لا تقع في دائرة اهتماماتها وأن الوجود الروسي فيها لا يشكل خطراً على المصالح الأميركية في المنطقة بل عامل ضمان لأمن أهم حلفائها إسرائيل، إضافة إلى أن ذلك يساعد على التخفيف من حدة التوترات الدولية.
إلا أن الحقيقة ليست كذلك تماماً، فالنأي الأميركي عن الانشغال بالشأن السوري يرجع أصلاً إلى أن واشنطن تعاني من شح الحلفاء أو الأصدقاء في سوريا.
وقد ساعدتها الحرب على داعش في العثور على حليف قوي لم يكن له فرصة للظهور على أرض الواقع في ظروف طبيعية، إلا أنه في إشكاليات كبيرة مع تركيا ومع فصائل المعارضة السورية التي ترعى الولايات المتحدة مشروعها السياسي وفق قرارات الأمم المتحدة.
ظهور تنظيم داعش منح الولايات المتحدة مبرراً للحضور في الساحة السورية للمرة الأولى، وسمح لروسيا وإيران بتكثيف وجودهما، وأتاح لتركيا فرصة مراجعة سياساتها وتغيير مساراتها، فالموقف التركي من قوى المعارضة السورية التي ساندتها قد تغير ليتماشى مع ما تراه روسيا الداعمة للنظام وتحول جل انشغالها بقضية الكرد في الشمال السوري.
الولايات المتحدة وجدت في كرد سوريا أفضل حليف لها في الحرب على داعش وفي إيجاد صيغة توازن مع الحضور الإيراني الكثيف في سوريا وهي في سياق ذلك لم تعر كبير اهتمام للقلق التركي من جراء تسليحهم خصوصاً حزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) الذي تعتبره تركيا امتداداً لحزب العمال الكردي التركي (بي كي كي).
دأبت الولايات المتحدة على محاصرة الطموح التركي في سوريا، واتسمت مواقفها من السياسات التركية بالتحفظ إن لم يكن بالرفض، فهي لم توافق على إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري كما رغبت تركيا في مرحلة مبكرة من الأزمة السورية، وهي لم تعط الضوء الأخضر لعملية غصن الزيتون في عفرين، إلا أنها لم تقم بوضع عقبات أمامها سوى في نطاق التصريحات التحذيرية من زيادة التعقيدات في مسرح العمليات ورفع درجة مخاطرها، إذ ليس هناك تهديدات حقيقية لأمن تركيا، كما أن شن الحرب على الكرد في عفرين وفي مناطق أخرى يهدد خطط التحالف الدولي ويضعف قدراته في محاربة تنظيم داعش.
من المستبعد أن تنجح تركيا في إجهاض الخطط الأميركية للبقاء في سوريا وتوفير غطاء أمني للكرد، فهي مَهمة من الصعب الاضطلاع بها أو مواجهة تداعياتها. تركيا لها الحق دون شك في الدفاع عن أمنها القومي، ولكن هناك أكثر من مسار لتحقيق ذلك غير كسب العداوات وإثارة الصراعات مع أحد مكونات الشعب السوري الذي يقيم إلى جوارها.
فالكرد باقون وقضيتهم باقية في الشمال السوري وهناك احتمال أن تتزايد أهمية الالتفات ناحيتها ليس في سوريا وحدها. من هذا المنظور تبدو العمليات العسكرية التركية في عفرين غير مبررة وغير مقنعة لقادة العديد من دول العالم بعد أن نقلتها فرنسا إلى أروقة الأمم المتحدة.
نقلا عن “البيان”