قطاع محدودي الدخل، ودوره في انتشال الاقتصاد (2)
يمثل اصحاب الدخل المحدود اعداداً كبيرة من مجتمعنا اليوم.. واصبحوا -بغض النظر عن العوامل التي قادت لذلك- المالك الاساس للجزء الاعظم من الدخل القومي، ويمثلون بالتالي واحداً من اهم مرتكزات الحقائق الاقتصادية الاساسية. كتبت وتكلمت مراراً رسمياً وللرأي العام للتنبيه للأمر، لذلك اعيد نص افتتاحية 13/10/2015 بعنوان “الموازنة.. آفة النفقات التشغيلية”. فما لا يتنبه له الوعي تفرضه الايام.
[“ازمة الموازنات العراقية ابتلاءها بترهل شديد في وظائف الدولة وفي شؤون التقاعد والاعانات والرعاية، بحيث باتت الدولة دولة رعاية اجتماعية وليس خدمة عامة.. فعدد العاملين في الدولة، والذين يتقاضون منها مباشرة قد يكون وصل الى 7 مليون مواطن بين موظف ومتقاعد ومتعاقد ومنتسب لشركاتها، اي ما يمثل اكثر من 20% من سكان البلاد. لذلك ترهق موازنات الدولة بما يسمى بالنفقات التشغيلية المباشرة وغير المباشرة.
ستكون النفقات التشغيلية بحدود 80 ترليون دينار في موازنة 2016.. وهذه ستعادل تقريباً الموارد الكلية للموازنة –عدا العجز- والبالغة ايضاً 84 ترليون دينار تقريباً، والمتأتية من اعتماد سعر 45 دولاراً لبرميل النفط ومعدل 3.6 مليون برميل/يوم.. اضافة الى 14 ترليون تقريباً من واردات الضرائب ومتحصلات الدولة الاخرى.
بكلمات اخرى لن يبقى شيئاً للاستثمار سوى اعتماد سياسات الاقتراض والعجز والتضخم عبر سعر صرف العملة. ولقد اقترحنا بعض الحلول في افتتاحيات سابقة.. اما بخصوص النفقات التشغيلية فنعتقد بامكانية تقليل بعض اضرار ارتفاعها المفرط، بل الاستفادة من ذلك جزئياً في ظروف الاقتصاد الراهنة، لو اتبعنا بعض السياسات.
يعلم الاقتصاديون ان “الميل الحدي للاستهلاك” بالنسبة للاجور والرواتب والرعاية في بلد كالعراق مرتفع جداً ويكاد يقترب من واحد.. اي ان ما يخصصه المواطن للسلع والنفقات الاستهلاكية الاساسية للحياة تستنفذ معظم الاجر، ولا تترك منه الكثير للادخار والاستثمار. فالنفقات التشغيلية المرتفعة تعني بالنسبة لحالتنا ارتفاع “الميل الحدي للاستيراد”، بسبب ضعف الصناعة والزراعة وانتاج السلع والخدمات الوطنية. وعليه فان اية سياسة لتشجيع الاستثمار في الزراعة والصناعات والخدمات التي يستهلكها المواطن الموظف او الاجير او الذي يعتمد على التقاعد والرعاية، والتي تعتمد سياسات “بدائل الاستيراد” المعروفة، سيحول النفقات التشغيلية الى موارد حقيقية للاستثمار.. مما يعوض الى درجة كبيرة ضعف الموازنة الاستثمارية للدولة، ويطلق نشاطات حقيقية تعيد الحيوية للاقتصاد الوطني. وهذه السياسة طبقتها الكثير من دول امريكا اللاتينية والاسيوية ونجحت فيها.. اذ تم التعاقد مع الشركات المصدرة لبناء خطوط انتاجها في الوطن.. او تشجيع المصارف والدولة على تقديم السلف وتسهيل الاجراءات امام النشاطات الهادفة لانتاج سلع مضمونة الزبائن والاسواق.. ولعل مثال معمل السكر في بابل بكلفة 250 مليون دولار، والذي تم بالتعاون مع العتبة العباسية، وتم افتتاحه فعلاً، هو مثال جيد لهذه السياسة، والذي وفر اكثر من 1700 فرصة عمل، وطاقة انتاجية سنوية مقدارها مليون طن، مما سيسمح بتزويد وزارة التجارة بالمادة لسد حاجة البطاقة التموينية.
سيسارع البعض للكلام عن الحمايات الجمركية.. وهذا امر صحيح، لكنه من الخطأ البدء به بالاطلاق، وبالاساليب القديمة.. التي دمرت الاقتصاد والقطاعات الحقيقية لمصلحة هياكل لا تعيش الا تحت نوع اخر من الرعاية.. والتي تنهار حالما ترتفع عنها يد الرعاية، كما حصل في تجربة “شركات التمويل الذاتي”. فالحماية ضرورية لكن يمكن تنفيذها انتقائياً وتدريجياً.. فعندما يكون الانتاج المحلي ضعيفاً ولا يوفر حاجيات السوق، فان الحمايات الجمركية لن تشجع القطاعات الحقيقية، بل ستشجع -عدا بعض الاستثناءات-، التهريب والتزوير والغش والبضاعة الرديئة والمنتهية النفاذ، والنشاطات الزراعية الكاذبة، ومصانع الكراجات، التي يعمل العديد منها تحت يافطات واسماء لشركات تابعة لهذه الوزارة او تلك، والتي تحوم بعض الشبهات حول العديد منها.”] (للبحث صلة)
عادل عبد المهدي