مخاوف عربية عمرها 72 عاماً
عندما تم تأسيس منظمة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم العام 1945، لم يتوفر الإجماع الدولي حول أن تكون الولايات المتحدة هي المقر الرسمي للمنظمة، وكانت هناك وجهات نظر مختلفة بشأن المقر، وكان هناك رفض بأن تكون الولايات المتحدة هي المقر، خشية أن تمارس نفوذها على المنظمة. وارتأى البعض أن تكون سويسرا باعتبارها دولة محايدة، حتى أن بعض الدول اقترحت أن تكون آسيا أو إفريقيا كي لا تكون المنظمة في دولة كبرى لئلا تحصل على امتيازات خاصة لا تتوفر لغيرها.
كانت الدول العربية الأعضاء في المنظمة آنذاك خمس دول، هي العراق وسوريا ولبنان والسعودية ومصر وقد أبدت اعتراضها على اختيار مدينة نيويورك مقرًا من جانب لجنة خاصة تولت اختيار المكان لعدم اقتناعها بأنه المكان الأفضل، ثم بسبب تعاظم النفوذ الصهيوني فيها.
وفي 14 يناير (كانون الثاني) 1946 عرض مشروع اختيار نيويورك مدينة مقر للمنظمة الدولية على الجمعية العامة فأيدته 40 دولة، وعارضته سبع دول هي أستراليا والسلفادور والدول العربية الخمس.
كانت هناك خشية عربية من اختيار نيويورك، كي لا تتحول المنظمة الدولية رهينة بيد الولايات المتحدة والقوى الصهيونية النافذة في ما يتعلق بالقضايا العربية خصوصاً القضية الفلسطينية، حيث كانت بوادر المؤامرة الغربية لإقامة «إسرائيل» تلوح في الأفق، وبعدما بدا أن الولايات المتحدة واللوبي الصهيوني فيها يلعبان دوراً أساسياً في تحقيق المشروع الاسرائيلي في قلب الوطن العربي.
وهكذا كان اختيار الولايات المتحدة دولة مقر للمنظمة الدولية كارثة على العرب وقضيتهم المركزية، لأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة استخدمت المنظمة مخلب قط لها لدعم وجود «إسرائيل» وحمايتها وتوفير الغطاء السياسي لها كي تمارس العدوان والاحتلال والتوسع والعنصرية من خلال «الفيتو» الذي يسمح لها وللدول الكبرى الأخرى بتعطيل أي قرار بشأن «إسرائيل»، عدا النفوذ الذي يمنحها ممارسة الضغوط على الدول الأعضاء لمجاراتها في سياساتها خلال التصويت على القرارات.
صحيح أن الولايات المتحدة هي المساهم الأكبر في ميزانية المنظمة الدولية (حوالي 21 بالمئة من الميزانية)، إلا أن ذلك لا يسمح لها بأن تمارس نفوذها وسطوتها على المنظمة، ولا يعطيها الحق في تعطيل قرارات هي في صلب ميثاق الأمم المتحدة باعتبارها ضامنة للأمن والسلام الدوليين.
إن تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومندوبته في الأمم المتحدة نيكي هايلي بتقليص مساهمة الولايات المتحدة في ميزانيتها، أو الانسحاب من بعض المنظمات التابعة للأمم المتحدة عقاباً على مواقفها التي تتعارض مع المصالح الأمريكية أو «الإسرائيلية»، وتهديد الدول الأعضاء بعقوبات أو حرمانها من المساعدات، شكل من أشكال البلطجة المفضوحة التي تتنافى مع القوانين والعلاقات الدولية، بل تشكل انتهاكاً فاضحاً لميثاق الأمم المتحدة الذي ارتضاه العالم دستوراً يحدد العلاقات الدولية.
إن دولة لا تعترف بقرارات الشرعية الدولية وتنتهك ميثاق الأمم المتحدة، وتمارس الحروب كيفما تشاء ومن دون رادع، وتدعم العدوان والعنصرية لا تستحق أن تكون مكاناً للمنظمة الدولية.
وقد كانت مخاوف الدول العربية قبل 72 عاماً في محلها، والأمر يتأكد كل يوم.
“الخليج”