اراء و أفكـار

ما بعد سقوط «داعش»

د.عبد المنعم سعيد*
أخيراً سقطت «الرقة»، عاصمة الدولة الداعشية المزعومة، بعد ثلاث سنوات من احتلالها من قبل «داعش» في يناير ٢٠١٤، وجاء ذلك بعد سقوط مدينة «الموصل» على يد القوات العراقية.

وما بين هذا السقوط وذاك، فإن الأراضي الواقعة تحت سيطرة التنظيم الداعشي تقلصت كثيراً، ولم يبقَ إلا مجموعة من الجيوب المنتشرة ما بين سوريا والعراق، تخوض معركة دفاعية محكوم عليها بالهزيمة.

وهكذا انتهى فصل دامٍ من فصول الشرق الأوسط، حاول فيها التنظيم الإرهابي أن يختطف راية الإرهاب من تنظيمات أخرى من ناحية، ويفرض على المنطقة والعالم كله فترة من الزمن، قدم فيها أكثر أساليب العصور الوسطي وحشية وتدميراً من ناحية أخرى.

ومن ناحية ثالثة، فإن «داعش» وضع على قائمة الأعمال الإرهابية، ربما لأول مرة في التاريخ المعاصر، حالة للاحتفاظ بالأرض، ومحاولة بناء دولة عليها، مقارنة بالتنظيمات الإرهابية الأخرى التي حاولت أن تمارس إرهابها على أراضي دول قائمة، فيكون ذلك سبيلها إلى السلطة.

ماذا سوف يفعل «داعش»، وقد فقد كما جاء في بعض التقارير حوالي ٨٠ ألف متطرف، وثبت أن تجربته في دنيا الإرهاب أصابها الفشل، وهل يكون ذلك سبيله إلى العودة إلى أحضان تنظيمات إرهابية أخرى مثل القاعدة، أو العودة إلى أحضان التنظيم الإرهابي الأول، ممثلاً في الإخوان، أو أنه سيبحث عن طريق آخر؟.

تحديد مستقبل داعش لا يزال في رحم الزمن، فما زالت هناك أنفاس باقية، والمرجح أن قيادات التنظيم الآن، تلهث من أجل البقاء، بينما تحاول بناء استراتيجية جديدة للتعامل مع الواقع الجديد. الثابت حتى الآن، أن سقوط «داعش»، أعاد المنطقة إلى الأجندة التي كانت عليها قبل عام ٢٠١٤، عندما استولى التنظيم الإرهابي على الرقة والموصل.

وأزال الحدود بين سوريا والعراق، ووقف أبو بكر البغدادي على المنبر، مبشراً العالم بعودة «الخلافة» مرة أخرى. فشل المشروع الداعشي، لم يوجه ضربة فقط لأكثر الحركات الإرهابية وحشية، وإنما دفع أطرافاً كثيرة لكي تستأنف مطالبها السابقة، أو على الأقل، تتواكب مع الحقائق الجديدة، أو تحصد نتائج استثمارات الدم والسلاح التي أنفقتها، حتى بينما الحرب لا تزال عملياً مستمرة.

فلم يكن الاستفتاء الكردي على الاستقلال في إقليم كردستان، إلا استثماراً لفرصة سقوط داعش، وحصداً لما بذلته قوات البشمركة الكردية في الحرب على داعش، بالتعاون مع الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية.

والحقيقة أنه لا يمكن فصل ما حدث بعد سقوط دولة داعش، والتطورات على الجبهة العراقية عن عودة السفارة السعودية إلى العمل في بغداد، وبمجرد سقوط الرقة، وصلت أول طائرة مدنية سعودية إلى العاصمة العراقية.مصر من جانبها، تعاملت مع التطورات الجارية الآن منذ فترة، فكان دعمها للحكومة العراقية ومساندتها لها حتى قبل أن تظهر بشارات النصر.

وكذلك كان موقفها في سوريا، بحيث ينطلق من مساندة الدولة السورية وقدرتها على البقاء، وبعد أن أخذ داعش في التراجع، كانت المساهمة المصرية في عملية تخفيف الصراعات في مناطق مختلفة. الدور المصري الآن في القضية الفلسطينية معروف ومبشر أيضاً، وفيه محاولة لكي تعود القضية «المركزية» إلى بعض من مكانتها التي خطفتها المعارك الكثيرة ضد الإرهاب.

ولكن مصر أيضاً عليها أن تتابع بنشاط التطورات الجارية وتعقيداتها، ولكنها من ناحية أخرى لا تزال هدفاً أساسياً لاستراتيجيات داعش المقبلة، ومعاونيها ومسانديها من التنظيمات الإرهابية الأخرى، وفي المقدم منهم جماعة الإخوان. فلن ينسى معسكر الإرهاب كله، على تنوعه وتناقضاته الداخلية، أن الانكسار الأول لهم حدث في مصر، بعد أن بدا أن الموجة الكاسحة للتنظيمات المتطرفة سوف تغمر المنطقة انطلاقاً من القاهرة.

سقوط داعش لا يعني نهاية التنظيمات الإرهابية، وإنما يعني أن واحداً من فصولها قد وصل إلى نهايته، وبقدر ما بات واضحاً أن مصر عصية على الكسر، فإنه بات واضحاً أيضاً أن الإرهاب لا يزال له قدرات وانتشار في مناطق متنوعة من العالم، ومع ذلك، فإن في مصر الجائزة الكبرى.

المرحلة المقبلة سوف تحتاج منا جهوداً مضاعفة لمواجهة الإرهاب كعمليات وتنظيم وأيدلوجية، ليس فقط لأن ذلك صميم الدفاع عن الأمن القومي المصري، وإنما أيضاً لأن عملية التنمية المصرية واسعة النطاق، لن تتيسر ما لم يتم القضاء على الإرهاب أو تحجيمه إلى الدرجة التي لا يستطيع فيها الوقوف أمام التقدم المصري. إن الشهداء من المصريين ينظرون لنا الآن، وينتظرون منا الكثير خلال المرحلة المقبلة.

“البيان”

مقالات ذات صلة