اراء و أفكـار

أمس مجيد وحاضر بائس

لا نجافي الحقيقة، ولا نفتئت على الواقع عندما نقول، إن الأمة العربية تعيش أسوأ أيامها وأحلك لياليها. حاضرها بائس يكاد يخرجها من التاريخ ويودي بها إلى التهلكة في استعادة مريرة لعصور الانحطاط التي سادت فيها الشعوبية والأقوام الغريبة التي تحكمت برقاب البلاد والعباد، فاضمحلّ الإبداع وساد الجهل، وتحولت الأمة إلى أمم وقبائل وعشائر وطوائف.
ما أشبه الليلة بالبارحة. أمة تأكل بعضها، وتغرف من معين الطائفية الآسن، ويخرج من بين ظهرانيها شياطين الإرهاب والتكفير الذين أتوا من جحور العتمة التي تناسلوا فيها ليعيثوا فساداً في الأرض، قتلاً وذبحاً وتدميراً وتشويهاً لدين حنيف عظيم، وتسمح لبغاة الأرض وشذاذ الآفاق أن يتسيّدوا ويحتلوا ويستبدوا ويعربدوا وينتهكوا المقدسات.
كيف وصلت الأمة إلى هذه الحال؟ ماذا أصابها؟ هل هو وباء الأنانية وضعف الانتماء وفقدان البصيرة؟ أم هناك ما هو أدهى وأعظم، مثل التخلي عن الرابطة القومية والانخراط في مشاريع مشبوهة تستهدف الأمة بحاضرها ومستقبلها؟
نفتح صفحات التاريخ القريب، تلك المرتبطة بمرحلة الصراع مع الاستعمار الذي جثم في ديارنا، فنجده ساطعاً متألقاً يحكي سيرة مجد وعز ومواقف بطولية لكل مكونات الأمة، لا فرق بين دين أو قومية أو مذهب، وكأن أحفاد اليوم لا علاقة لهم بالآباء والأجداد.
ربما لا يعرف الجيل الحالي، أن فارس الخوري العربي المسيحي كان رئيساً لوزراء سوريا العام 1944، كما تولى وزارة الأوقاف، وعندما اعترض البعض خرج نائب الكتلة الإسلامية في البرلمان آنذاك، عبد الحسين الطباع ليتصدى للمعترضين قائلاً: «إننا نؤمّن فارس بيك الخوري على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا»، وفي منتصف الخمسينات اختار أهالي حوران، المسيحي، هاني السالم رئيساً للميتم الإسلامي، بدلاً من أحمد الجنادي (إخوان مسلمين).
وكثيرون لا يعرفون أنه عندما أبلغ الجنرال غورو، فارس الخوري، بأن فرنسا جاءت إلى سوريا لحماية المسيحيين، فما كان منه إلا أن توجه إلى الجامع الأموي في يوم جمعة وصعد إلى المنبر قائلاً: «إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا نحن المسيحيين، فأنا كمسيحي من على هذا المنبر أقول..أشهد أن لا إله إلا الله»، فأقبل عليه مصلو الجامع وحملوه على الأكتاف وخرجوا به يطوفون أحياء دمشق.
وفي العراق، شاركت كل أطياف وطوائف الشعب العراقي في ثورة العشرين (1920) ضد الاحتلال البريطاني بعد توقيع معاهدة سان ريمو، لا فرق بين عربي وكردي وتركماني. انخرط الجميع في التظاهرات والمواجهات التي امتدت من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، و صدرت فتاوى بتحريم التعامل مع الإنجليز، وأبلت العشائر العربية والكردية بلاء حسناً، مثل القائد الكردي محمد برزنجي وقبائل زوبع وبني تميم والدليم وغيرها.
هذه فصول مضيئة من تاريخ قريب، عندما كانت الهوية العربية هي الجامعة، وعندما كان الانتماء للوطن فوق الجميع.

نقلا عن “الخليج”

مقالات ذات صلة