اراء و أفكـار

المحاصصة كمقدمة للتقسيم

حسن مدن

المحاصصة هي اختراع بدأه بول بريمر الحاكم العسكري الأمريكي للعراق بعيد احتلال الأمريكان له، صادف هوى في صفوف النخبة السياسية العراقية، التي انتابتها نشوة الظفر يومها. وكان بريمر يدور رئاسة مجلس الحكم الانتقالي، الذي أقامه في حينه بين ممثلي الطوائف والإثنيات،

لا التيارات السياسية والمجتمعية، فمرة تذهب الرئاسة إلى زعيم شيعي، ليليه زعيم سني، ثم زعيم كردي وهكذا دواليك، حتى أن ممثلي التيارات المصنفة بالعلمانية لم يتولوا رئاسة ذاك المجلس بصفتهم ممثلين لتيارات سياسية هي بطبيعتها فوق الطوائف والملل، أو فلنقل عابرة لها؛ لكن بريمر عمد إلى أن يكون التحدر الطائفي أو المذهبي لزعيم هذا التيار أو ذاك هو معيار اختياره لرئاسة المجلس في عملية التدوير المشار إليها، فهو لا يدخل بصفته ليبرالياً أو يسارياً أو قومياً، وإنما بصفته المذهبية، رغم أن التيار الذي يرأسه يضم أعضاء ومناصرين من مختلف مكونات المجتمع.
سيقول قائل إن المحاصصة ليست اختراعاً أمريكياً، وإنما هي تعبير عن واقع موضوعي قائم في مجتمع منقسم، وإن المطالبة بتحسين نسب تمثيل الطوائف والإثنيات في قيادة الدولة ليكون أكثر عدالة هو أمر سابق لبريمر ولاحتلال الأمريكان للعراق. وقد يستشهد بعضهم ب «الصيغة» اللبنانية منذ تأسيس الدولة؛ حيث جرى تقسيم مواقع الدولة الرئيسية: رئاسة الجمهورية، ورئاسة البرلمان، ورئاسة الحكومة على زعماء الطوائف.
ونقول: فليكن ذلك، ولا نريد أن ندخل في سجال حوله، ولكن علينا القول إن الهويات الفرعية لم تكن على ما هي عليه الحال من انفجار، ولم تكن المجتمعات قد بلغت ما بلغته اليوم من تشظٍ حين وضع بريمر الأمر موضع التطبيق في العراق؛ ليصبح زعماء الطوائف الجدد هم الذين يستفيدون منه؛ لذلك انخرطوا في «اللعبة»، سعداء بثمارها عليهم، وهي ثمار سرعان ما كشفت التجربة عن ضخامتها، حين أنتجت ما دعوناه هنا منذ أيام ب «قطط بغداد السمان»، قاصدين بها كل محدثي النعمة ومن كل الطوائف والإثنيات الذين راكموا ثروات طائلة خلال سنوات قليلة، سرقوها من «بيت أموال» الشعب.
وإذا كانت المحاصصة قد وجدت طريقها للتطبيق في العراق، فإنها باتت «وصفة» يراد لها أن تطبق في بلدان عربية أخرى، لها ما للعراق من سمات التعدد الطائفي والمذهبي والإثني، كسوريا مثلاً، وإذا قيض لهذا أن يتم هناك فستعم الوصفة بلداناً عربية أخرى، خاصة أن الجوار الإقليمي للعالم العربي يروق له ذلك؛ لأنه ينتج له أحصنة طروادة محلية في بلداننا، عبرها قد يدفع بهذه البلدان نحو التقسيم حين يُصور كملاذ من حدة و«دموية» الانقسامات الداخلية، فيصبح هذا الجوار، وفي مقدمته «إسرائيل» هو المستفيد الأكبر.

نقلا عن “الخليج”

مقالات ذات صلة