اراء و أفكـار

اللايقين في السياسات العربية

بين اليقين واللايقين في الفضاء السياسي العربي مسافات واسعة، ويعود هذا إلى أن الحقائق السياسية لم تعد يقينية، أو مصدَّقة مِن قِبل مَن يتلقاها، وأحياناً مِن قِبل مَن يبثها. بدأ هذا مع أكذوبة أسلحة الدمار الشامل في 2003 التي كانت ذريعة احتلال العراق، إلى الخلاف حول طبيعة ثورات الربيع العربي في 2011 ومآلها إلى حروب يتنازع كل طرف فيها الحقيقة، إلى إشاعات تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي، فيصبح كل شيء في فضاء اللايقين.
هنا يبدو الفضاء السياسي العربي محل شك باحث عن الحقيقة، وتصبح تصريحات المسؤولين كأنها صيحات تبحث عمن يستمع إليها. فهل بات الفضاء السياسي العربي في حاجة إلى شيء ما لاستعادة اليقين مرة أخرى؟ لا شك في أنه بات في حاجة إلى زلزال سياسي لا يقود إلى حروب أهلية أو نزاعات عصبية أو ايديولوجية، بل إلى حوار قائم على الاختلاف في الرأي وتباين وجهات النظر في معالجة القضايا، هنا لا بد من بناء نماذج وأطروحات حول المستقبل العربي لتراكم على دراسة أخطاء الماضي.
فهناك توافق نسبي ولا نقول اجماع على أن تداول السلطة أصبح حتمياً في المنطقة العربية، لأن التغيير يستوعب المتغيرات الاجتماعية ويخلخل الركود السياسي ويدفع بنخب جديدة تصنف حيوية على السلطة، في حين أن الجمود يدفع إلى الغليان ثم الثورة. إن هذا لن يأتي إلا ببناء أنظمة وطنية عصرية، تؤمن بحقوق المواطنة والمساءلة الســياسية والشفافية والتنمية لا النمو، إذ إن التنمية تعني تحقيق جودة الحياة وعدالة توزيع الثروة أياً كان حجمها وتغليب الصالح العام على الخاص. هذا يتطلب حواراً مجتمعياً عربياً موسعاً حول المستقبل في كل بلد عربي على حدة، إذ لكل بلد خصوصيته ورهاناته وتكوينه، ثم حوار عربي أوسع بين الدول والشعوب، إذ إن جامعة الدول العربية أقيمت كتعبير عن السلطة المنشأه لها، للبحث عن مشترك سياسي عربي ليس إلا. بينما المستقبل يحتم البناء على البحث عن المصالح العربية المشتركة، ووفق أوزان الدول، إذ المساواة في التصويت بين الدول خلق خللاً في القرار المتخذ، إن اليقين العربي يبني على رؤية الواقع كان مراً أم حسناً أم منجزاً بامتياز.
لكن أن تردد أبواق كل سلطة أن الواقع المعيش مثالي بسياستها، من دون الحديث عن الواقع الفعلي، هو بمثابة الحديث الزائف لجمهور لم يعد له وجود، إذ إن العقل العربي أصبح عقلاً ناقداً، يقوم على التتبع والفحص والمقارنة في ظل محركات بحث على الإنترنت كاشفة وفاحصة، في ظل جيل تصدر وسائط الإعلام على أنه لا يقرأ، وتنسى أو تتناسى أن الوسيط تغير من الورقي إلى الرقمي ليس إلا، فبالتالي حجم المعرفة المتداولة صار كبيراً وكاشفاً، هذا يقتضي الحوار السياسي حول بناء صور المستقبل ونماذجه في كل بلد عربي وعلى الصعيد العربي القومي، فأي نموذج يسعى إليه العرب، لا شك في أن فشل نموذج الدولة الاشتراكية وفشل النموذج الرأسمالي الأميركي، يقودان نحو ضرورة التوازن على غرار التجربة الاسكندنافية التي توازن بين المسؤولية الاجتماعية والحرية الاقتصادية. إن الحداثة يجب أن تطاول حتى خطاب الإسلام السياسي المتجمد في مقولات الماضي، رغم أن الإسلام كان ثورة على مفاهيم عصر النبوة، ثورة غيرت، فهل هذه الثورة تجمدت معها قوالب ومقولات حدثها فقهاء المسلمين وعلماؤهم في عصور متتابعة، هذا ما يطرح تساؤلات حول كل خطابات الأدلجة السياسية من القومية العربية إلى الإسلام السياسي والتي ما قدمت إلى تدمير هذا البلد أو ذاك، أو خلق نزاعات داخل كل بلد عربي أو بين البلدان العربية.
اللايقين جعل الأجيال الشابة لا تؤمن بأوطانها، لأن الخطابات السياسية العربية، أصبحت واهية وباحثة عن الماضي لا عن رهانات المستقبل، لقد أيقنت أوروبا أن الحروب والنزاعات المسلحة والايديولوجيا المسلحة لا تصنع حاضراً بل تدمره، ولا تبني مستقبلاً. كما أن آسيا حتى في ظل رؤية الفقراء لكوريا الشمالية لا ترغب في حرب مدمرة، فهل حان الوقت أن يكون خطاب الحرب والسلاح آخر ما يفكر فيه الفقراء والعرب، حتى يصبح اليقين هو ما نتحدث عنه؟ هل يستطيع أن يبني العرب حالة جديدة، لكي ننتهي من حالة اللايقين التي نعيشها؟

خالد عزب

نقلا عن “الحياة اللندنية”

مقالات ذات صلة