اراء و أفكـار

الطائفية والفتن المذهبية

تميز الوطن العربي تاريخياً بالابتعاد عن الطائفية والمذهبية، حتى أن مطلق إنسان عربي كان لا يعرف انتماء جاره الديني ولا الطائفي ولا المذهبي. صحيح أنه كانت هناك أحداث طائفية في التاريخ العربي في القرن الثالث عشر، وأثناء حملة نابليون، لكنها ظلت بعيدة دوماً عن الاستغلال السياسي، ولم تطرح هذه المسألة لا أثناء الاستعمار، ولا في معارك التحرر الوطني العربية ولا بعدها.
منذ عقد زمني أو يزيد قليلاً، فالمتطلع لأحوال الوطن العربي، يلاحظ بلا أدنى شك الانغماس التدريجي نحو الطائفية بما يعنيه ذلك من توظيف للدين على أساس طائفي لأغراض سياسية، وبغطاء مذهبي ديني يلجأ إليه بعض السياسيين الذين قد لا يكونون في أغلبهم متدينين بقدر ما تغلب عليهم المصالح الذاتية، فيلجأون إلى إثارة مشاعر الناس الطائفية من أجل تحقيق أهدافهم، ولو على حساب الوطن والمجتمع كلّه. للأسف، للطائفية السياسية أنماط مجتمعية مختلفة الاستعمال، أحياناً لتغطية فشل البعض سياسياً، فيبدأون اللعب على أوتار العصبية والطائفية أو القبلية والمذهبية في مواجهة أية مساءلات قانونية أو في المنافسة السياسية مع الخصوم.

الغريب أن الطائفية السياسية غالباً ما تكون مكرسة من سياسيين ليس لديهم أية التزامات دينية أو مذهبية، بل هي مواقف انتهازية للحصول على ال «عصبية» كما يسميها ابن خلدون، أو «ترويج الذات» كما يطلق عليه في عصرنا كي يستطيع الانتهازي السياسي الوصول إلى السلطة. إن مجرد انتماء الإنسان إلى طائفة أو مذهب لا يجعله طائفياً، إذا لم ينتج عن عمله إضرار بحق الآخرين، ولكن الطائفي أيضاً هو الذي يرفض الطوائف الأخرى ولا يعترف بحقوقها.
إن من عرف الطائفية هي أوروبا، وخاصة بعد ظهور حركة الإصلاح البروتستانتية. الصراعات والحروب آنذاك أطلق عليها اسم الحروب الدينية، وهي سلسلة من المعارك الأوروبية التي حدثت في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ورغم أن الدين لا يدخل أحياناً كسبب مباشر في الحرب؛ إلاّ أن جميع هذه الحروب كانت مرتبطة بدور الدين في تلك الفترة وما أدّت إليه من صراع وتنافس. استمرت الحروب الدينية بصورة متعاقبة لمدة مئة وإحدى وثلاثين سنة بين عامي (1517 – 1648)، وجرت في سويسرا وفرنسا وألمانيا والنمسا وبوهيميا وهولندا وإنجلترا واسكتلندا وإيرلندا والدنمارك. قتلت هذه الحروب في أقل التقديرات مليوني نسمة. في فرنسا استمرت في ثماني موجات متتالية وكانت كلها بين البروتستانت والكاثوليك. خسرت ألمانيا في حرب الثلاثين عاماً نصف عدد سكانها، ودمر الجيش السويدي في ألمانيا 2000 قلعة وثمانية عشر ألف قرية وألف وخمسمائة مدينة، حتى أصبح هناك وفرة في النساء وقلة في الرجال. الحرب الأهلية في إسبانيا قتلت (6485) رجل دين وحوالي ثلاثمائة وستون ألف ضحية.
تخلصت أوروبا من الحروب الدينية مبكراً. وفي القرن الواحد والعشرين المفترض فيه وصول الإنسان إلى درجة كبيرة من التعقل نظراً لتداعيات وكوارث الحروب، ترانا في الوطن العربي نعود إلى هذه الحروب المدمّرة.
لقد شهدت الهند قبل عهد الاستقلال في أربعينات القرن الماضي حرباً طائفية بين الهندوس والمسلمين، أفضت إلى تقسيم الهند إلى دولتي الهند العلمانية وباكستان الإسلامية عام 1947، والتي انقسمت فيما بعد إلى باكستان وبنجلادش عام 1971 فضلاً عن صراع مفتوح حول ولاية كشمير المسلمة بين الهند وباكستان والذي قاد إلى حروب عديدة بينهما وما زال يمثل مصدر توتر دائم بين البلدين.

وقبل عقود قليلة كانت ماليزيا تضم مجتمعاً مفككاً، هذه الدولة لم يكن لها وجود بهذا الاسم قبل 1963، وينحدر سكانها من أصول وعرقيات مختلفة، ولكنها اختارت ولوج العصر الحديث بقوة التعليم، ونجحت في أن تكون دولة حديثة ينعم مواطنوها بالرخاء والأمن والتربية المتصلة بروح التسامح الوطني.
نحن لا نتحدث عن الطائفية أو المذهبية كحالة فطرية متجذرة في التركيبة الإنسانية، ولكن عن ذلك التعصب الطائفي وما ينجم عنه من انحراف سياسي وأوهام وتداعيات سياسية سلبية عديدة. إن المذهبية الدينية تعني تحديد الهوية الجماعية لفئة مجتمعية، على أساس الروابط الدينية فيما بين أفرادها.. الطائفية السياسية تؤدي إلى الفتن، وهذه بدورها تؤدي إلى حروب داخلية عبثية، وتشكل خطراً على السلم الأهلي حيث تفتح الباب واسعاً على مصراعيه للتدخلات الأجنبية والإضرار بالمصالح الوطنية ناهيك عن تبديد الثروات وإيقاف عجلة النهضة وتقدمها للحاق بركب الحضارة الإنسانية، فضلاً عن قتل وتهجير ملايين الناس وفقدانهم لممتلكاتهم، ليتحولوا إلى غرباء في أوطانهم أو لاجئين في بلدان أخرى.
بالفعل، إن الطائفية السياسية هي كالسرطان الذي ينهش الجسد العربي برمته! فهل نعتبر؟.

د. فايز رشيد

نقلا عن “الخليج”

مقالات ذات صلة