المغرب: الحكمة أم الرصاص؟
يتمتّع المغرب العربي بصفات جغرافية وسياسية تميّزه، ويفترض أن تجعله، على رغم وجوده في أقصى ما يسمى «العالم العربي»، محط انتباه شديد، بل تجعله ايضاً، في هذه الحقبة الشديدة القساوة، بوصلة للاتجاهات المستقبلية التي يمكن أن تتجه إليها البلدان العربية.
من هذه المزايا الجغرافية المهمّة وجوده على مسافة شديدة القرب من أوروبا، التي تعتبر مركز الحضارة العالميّة منذ قرون، وهو ما يجعله شديد التأثّر بالعلاقة المعقدة بين هذه الحضارة والنظم السياسية والاجتماعية والفكرية التي أنتجتها، من جهة، والديناميّات الداخلية للنظام والمجتمع والفكر المغربي، من جهة أخرى.
هذه العلاقة التي أنتجت الاستعمارين الفرنسي والإسباني وآثارهما القديمة واللاحقة، والنضال المغربيّ الحثيث للاستقلال كردّ فعل عليهما، أنتجت أيضاً نزوعاً كبيراً لدى النخب المغربية للانتظام في خطّ الحضارة والحداثة والتقدّم من دون عقدة نقص تجاه الهويّة المغربيّة ومضمونها العربي والأمازيغي الإسلامي، وهي عقدة ميّزت، إلى حدّ كبير، اتجاهات فكرية وسياسية عربيّة، وفتحت الباب لصراع عبثيّ مهول بين التيارات المدعوّة «تقدّمية» من قومية وماركسية وتلك المسمّاة «إسلامية».
يمكن، وعلى هذه الخلفية السابقة، اعتبار أسّ الصراع الذي اعتمل في المغرب بعد الاستقلال، صراعاً بين منظومتين جغرافيتين تعبّر عنهما قوى أوروبا الديمقراطية ونظمها السياسية الحديثة، من ناحية، وقوى العالم العربيّ المستبدة ونظمه السياسية المتهالكة، من ناحية أخرى.
والحقيقة أن الوضع الحالي المغربي والعربي هو تجلّ كاشف لهذا الصراع، الذي تتحد فيه قوى الثورة المضادة العربية والاتجاهات العنصرية الغربية معاً لخنق الحراكات الشعبية ومعاكسة الاستحقاقات السياسية والتاريخية الملحّة، لأن أي تغيّر سياسي في العالم العربيّ باتجاه مزيد من الديمقراطية والتحديث ومحاكمة الفساد وفتح أبواب الحرّية سينعكس في الغرب نفسه عبر الجاليات المغربية الكبيرة، وسيساهم في وقف المد اليميني المتعصّب وأشكال التطرّف الديني والسياسي العربية.
تحتوي المنظومة المغربية الحاكمة، وفي قلبها المؤسسة الملكية، هذا الصراع داخلها، وقد عبّرت، منذ استلام الملك محمد السادس الحكم في مثل هذا الشهر من عام 1999 عن ميل متزايد للخروج بالبلاد من ذكريات «سنوات الرصاص» الأليمة، وتمثّل ذلك بعدد من الإصلاحات السياسية، وبالتعامل بذكاء مع الحراك الشعبيّ عام 2011، وبحكمة في التعامل مع الاتجاهات السياسية، بما فيها تيار «الإسلام السياسي» ممثلا بحزب «العدالة والتنمية» الذي يقود الحكومة حاليّاً، وهذا يشابه، إلى حدّ ما، سياسات المغرب الخارجية المتوازنة عربيّاً وإقليميّاً (التي كان من مظاهرها الكريمة والشجاعة مؤخراً موقف الملك محمد السادس المتعاطف مع قطر، وإدخال اللاجئين السوريين العالقين على الحدود مع الجزائر).
لكنّ هذا الميل الإصلاحيّ والاعتدال السياسي والحكمة التي تميّز المؤسسة الملكيّة لا ينفي، من جهة أخرى، قوّة المنظومة العربية داخل «المخزن» المغربيّ، ووجود اتجاه يكره الإصلاحات ويميل للاستبداد ويتمنى عودة «سنوات الرصاص» والقمع والبطش ضد المعارضة والشعب.
وقد شهدنا، في طرق التعامل مع حراك الريف المغربيّ المتأجج حاليّاً أشكالا كبرى تعبر عن هذين الاتجاهين الكبيرين في المغرب فتصاعدت الاعتقالات والعسكرة والضغط على الأحزاب والجمعيات لتأييد اتجاه البطش بالمتظاهرين والمعتصمين، كما شهدنا تمرّداً من قواعد الأحزاب وتعاطفاً شعبيّاً وسياسيا وإعلاميا مع الحراك وتوسّعاً متزايداً للاحتجاجات ودخول دول ومؤسسات غربية على خطّ نصح النظام بوقف القمع واعتماد خيار الاستماع للجماهير وتنمية المناطق المهمشة بدل المحاولة العدمية لكسر المعارضة.
إشارات كثيرة تدلّ على أن الملك محمد السادس يتّجه، كما فعل سابقا، إلى تسوية الأزمة واحترام مطالب شعبه، وهناك وسائل إعلام تؤكد أنه سيلقي خطاب ذكرى استلامه العرش في 23 من الشهر الجاري في مدينة الحسيمة، التي انطلقت منها الاحتجاجات وهو أمر سيكون، بالتأكيد، إعلاناً جديداً عن الحكمة المغربية وابتعاداً حثيثاً عن سنوات الرصاص.
… في هذه الأثناء يتابع بعض طغاة المشرق العربيّ انحدارهم الخطير نحو التوحّش.
نقلا عن “القدس العربي”