اراء و أفكـار

سجن الهوية كمنتَج للقتل

سمير الزبن

عندما نكون عاجزين عن تعريف أنفسنا بطريقة إيجابية وذات مضامين متنوعة، نجد أنفسنا نُعرّف أنفسنا بالسلب ونتحصن خلف هوية ضيقة، ثقافية أو دينية أو مناطقية… الخ. لأننا ببساطة غير قادرين على الدفاع عن هويتنا وسط هويات متنوعة. ولأننا نعتبر الهويات الأخرى مهددة لنا، يصبح الحلُّ الانغلاقَ على هويتنا وتحولها إلى سجن في مواجهة هويات أخرى تهددها ونعتبرها قادرة على ابتلاعها وابتلاعنا، وبالتالي صنع ضياعنا.
يأتي «الانغلاق» في كل المجالات، بما فيها المجال السياسي من إنكار الآخرين، والإنكار وتصغير الآخر هما البنية الأساسية لكل تفكير عنصري أو متطرف. فهذه الحالات لا تجد نفسها سوى بالارتداد على ذاتها وتكريس انغلاق شديد يُشيطن الآخرين ويحط من قدرهم ويُعلي من أشد القيم انحطاطاً، ويجعل البشر الآخرين مادة للاستباحة.
لا شك في أن هذا التوجه، بوعي أو من دون وعي، ينسجم تماماً مع ما عرف بحركة «اختراع التقاليد» التي تميز بها تاريخ الغرب منذ القرن الثامن عشر، وقد تجسدت عملية التشكيل هذه من خلال تلقين قيم معينة ونماذج سلوك عبر عملية التكرار، على اعتبار أن هذا المُخترَع والذي يتم تلقينه يستند إلى الماضي القابل للاستعادة والبناء عليه وصنعه من جديد. لا شك في أن «اختراع التقاليد» كان عنصراً أساسياً في بناء وتكوين الدولة الحديثة في الغرب. والسمة الرئيسية لـ «اختراع التقاليد» هي إعادة الاستخدام العملي والواعي لمعطيات استيهامية من الماضي لمصلحة الابتكار الاجتماعي أو الثقافي أو السياسي الحديث، لإيجاد تواصل وهمي بين الماضي والحاضر، والادعاء بأن ما نخترعه استمرار للتقاليد العريقة.
يحاول «اختراع التقاليد» أن يعطي لنفسه أبعاداً تاريخية عميقة، لكنه في الحقيقة ثقافة يعود تاريخها إلى عهد قريب. وفضلاً عن ذلك، فإن تشكيل ثقافة أو تقليد ما، يتم بالضرورة من خلال الحوار ويتحقق في تفاعل متبادل مع البيئة الإقليمية والدولية. وهذا الكلام لا يتناسب مع استراتيجيات أصحاب انغلاق الهوية، فالانغلاق يستند إلى أن أي ثقافة تشكل جمعاً من التمثلات الثابتة على مدى الزمن، وهو يرى أن هذا الجمع منغلق على نفسه مرتبط بماضيه المشرّف والمستعاد. وبناء عليه، يجب أن يتقرر توجه سياسي محدد يستند إلى هذه العراقة. وهو بذلك يمارس عملية نقل المعاني عبر الزمن، ليتم وصل الثقافة الموروثة بالثقافة المخترعة، ما يعني إضفاء مغزى جديد على نصوص كتبت منذ قرون، وتجديدها لخوض معارك ما كانت تخطر على بال أحد في زمنها.
مع عملية نقل المعنى يتم تحويله أيضاً، ويشكل هذا التحويل عملية يومية في الحياة الاجتماعية تعتمد على الحيل والأكاذيب. وادعاء الأصالة وصنعها عزيزان على أصحاب الانغلاق الثقافي الذين يزعمون أنهم يحافظون على النقاء الأصلي لهويتهم من ضروب التلوث الخارجي الذي يشكله أي آخر، مستعمر، كافر، مخرب، مهدد لهويتنا التي لا يريدنا أن نستعيدها لأنها تشكل خطراً عليه، لذلك هو يحاربنا طوال الوقت ليس من أجل مصالحه، بل للقضاء على هويتنا. من هنا، فإن الإرهاب مُنَتج حديث لـ «تقاليد مخترعة» حديثاً، تحاول ربط نفسها مع ماضٍ غريب عنها وعنا، لكنه يستلهمه كأداة لتبرير القتل بوصفه دفاعاً عن هويته الدينية المهددة من الآخر الكافر، الداخلي والخارجي، وبذلك يتم تعميم القتل على الجميع، فلا رقبة بعيدة عن سكين الذبح الآتية من «سجن الهوية» سوى رقبة المجرم نفسه حامل السكين.

نقلا عن “الحياة اللندنية”

مقالات ذات صلة