اراء و أفكـار

دونالد ترامب الجديد

جميل مطر
فهم الناس من متابعة أعمال القمة التي انعقدت في الرياض وخلاصة ما قيل فيها وعنها من تصريحات وتحليلات مبكرة أن الحكومات الإسلامية التي حضرت المؤتمر فوضت الرئيس الأمريكي وضع استراتيجية لمكافحة الإرهاب .

تحيط بالتزام الرئيس دونالد ترامب تجاه هذا العدد الكبير من الزعماء- حوالي ربع حكام العالم – اعتبارات عديدة كانت محل نقاش وجدل بين المحللين الأجانب. فالرئيس ترامب قبل تفويضاً، وهو ما يزال في الأشهر الأولى من ولايته، وبخبرة ضئيلة في صنع وممارسة السياسة، وبوجه خاص السياسة الخارجية. يقلل من أهمية هذا التحفظ أن الرئاسة الأمريكية كان لديها المساحة الزمنية الكافية للاستعداد لهذا المؤتمر. لم يكن الرئيس وحده حين اتخذ قرار تشجيع الدولة المضيفة على عقد مؤتمر بهذا الحجم ولهذا الغرض. كان إلى جانبه عائلته وبخاصة إيفانكا وزوجها ولكن كان هناك أيضاً جهاز المستشارين العسكريين. ثم أنه استطاع بذكاء وقبل وقت كافٍ من تاريخ انعقاد المؤتمر تجميد نشاط المستشارين المتشددين والممعنين في كراهيتهم للإسلام والمسلمين.
حرص مستشاروه على مده بالمعلومات الصحيحة أو الحقيقية والإحاطة به ومتابعة ما ينطق به. لذلك لم أفاجأ بالتزامه وحرصه أثناء إلقاء خطابه في مؤتمر الرياض معتمداً على نص مكتوب لم يخرج عنه مرة واحدة. لعلها المرة الثانية التي يلتزم فيها القراءة من نص مكتوب بعد خطاب القسم يوم «تتويجه» رئيساً للولايات المتحدة. هذا الالتزام يدفعني إلى الاعتقاد بأنه بدأ متدرجاً يخضع لتوصيات المقربين له.
لم أتوقع أن يطلب أحد من القادة المدعوين للقمة إرسال قوات أمريكية للدفاع عن بلاده ضد الإرهابيين، ولم يعرض الرئيس. أتفهم الامتناع عن الطلب والامتناع عن العرض. الكل، يعلمون حق العلم أن ما منع أوباما عن إرسال قوات أمريكية إلا نادراً إلى مناطق توتر ما زال يمنع ترامب عن إرسالها. لا يجوز أن ننسى أن أمريكا مهووسة، إن صح التعبير، بهاجس هزائمها أو نكساتها العسكرية العديدة في منطقة الشرق الأوسط على امتداد نصف قرن أو ما يزيد. أمريكا، نخبة وجيشاً، تتذكر نكسة المارينز في بيروت عام 1983، ومعركة مقديشو في الصومال في 1994 والاعتداء المسلح على القنصلية الأمريكية في بنغازي في 2014 مروراً بحربين، حرب «العمر الممتد» في أفغانستان وحرب «العار» في العراق. هذه النكسات العسكرية ونكسات سياسية غير قليلة تشكل ضغطاً وقيداً على الرئيس الأمريكي، ويعرفهما المسؤولون عن صنع السياسة الخارجية في مختلف أنحاء العالم وبخاصة في الدول الأعضاء في حلف ال«ناتو».
لقد ورث الرئيس ترامب مجتمعاً سياسياً منقسماً على ذاته عديد الانقسامات. بعض هذه الانقسامات يعود إلى انغماسه في العولمة بدرجات أحياناً متطرفة، يعود أيضاً إلى شعور متفاقم في دوائر أكاديمية وسياسية بانحدار مكانة أمريكا في الخارج وباتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وبخاصة في أعقاب الأزمة المصرفية قبيل تولي أوباما منصب الرئاسة.
هذه وغيرها من الانقسامات والأزمات الداخلية تركت علاماتها على وجه وتصرفات الرئيس الأمريكي في بداية رحلته في الشرق الأوسط وأوروبا الغربية. حاول كالعادة إلقاء تبعة هذه الانقسامات والمشكلات على الرئيس السابق باراك أوباما. أوباما أخطأ في ثلاث. أخطأ عندما تجاهل مخاوف وشكوك حلفاء أمريكا التقليديين في الشرق الأوسط، وبخاصة الحلفاء العرب و«الإسرائيليين» وعقد اتفاقاً مع إيران، ثم ذهب إلى أبعد حين انتقد علناً سياساتهم الداخلية واستنكر أساليب تعاملهم مع المعارضة. بذلك انتقص، حسب رأيهم، من صدقية أمريكا وأساء إلى نفوذها في المنطقة.
أخطأ ثانياً حين شجع روسيا على اختراق الشرق الأوسط بالنفوذ والسلاح والاتفاقيات الاقتصادية والأحلاف المرنة. هذا الشرق الأوسط الذي كان من أهم ركائز الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة. الآن لا يمكن لترامب أو غيره من الذين سوف يأتون بعده زحزحة روسيا من مواقعها الجديدة في الشرق الأوسط وفك أواصر علاقاتها بدول وقوى إقليمية إلا بتكلفة عالية. هكذا قد يبرر أنصار الرئيس ترامب مساعيه الشخصية ومساعي حملته الانتخابية وحكومته الراهنة لتأسيس علاقة مختلفة مع الرئيس فلاديمير بوتين تسمح لهما بتجاوز أنشطة أنصار الحرب الباردة المؤثرة سلباً على العلاقات بين البلدين، وتشجعهما على بناء نظام عالمي جديد.
أخطأ ثالثاً عندما سمح لإيران بالعودة عضواً فاعلاً في النظام الدولي مضحياً بالتحالف التقليدي بين الولايات المتحدة والدول العربية من ناحية وبين الولايات المتحدة و«إسرائيل» من ناحية أخرى. تؤكد «إسرائيل» مرة بعد الأخرى أن استعادة وضع العزلة المفروض على إيران ومنعها من التدخل في شؤون دول المنطقة وإضعافها كقوة ملموسة تناهض «إسرائيل» وتتحدى هيمنتها العسكرية في الشرق الأوسط، كلها خطوات ضرورية ولكن صارت مع الوقت هي الأخرى باهظة التكاليف.
مرة بعد أخرى نتثبت من أن شعبية الحاكم تظل غالباً رهن نجاحاته الداخلية قبل أي نجاحات أخرى. ترامب ليس استثناء، بل كان هو نفسه من جعل خطابه أمام القمة الأمريكية الإسلامية رسالة من الرياض إلى ناخبيه في الولايات المتحدة، يطمئنهم على مستقبلهم الاقتصادي. بعث إليهم يؤكد أهمية و ضخامة العقود والاتفاقات التي حصل عليها خلال أول يومين من أيام رحلته، ويبشرهم بوظائف جديدة وتدفقات مالية واستثمارات هائلة. أما رسالته إلى حكومات الدول الإسلامية وشعوبها فكانت أن «اطردوا الإرهابيين من بلادكم».

نقلاً عن “الخليج”

مقالات ذات صلة