كوريا الشمالية وأمريكا: هل الضربة النووية آتية؟
د. مثنى عبدالله
في السنوات الاخيرة بدا وكأن العالم في مرحلة انتقالية متغيرة، حيث ينتقل فيها ميزان القوى من أماكنه المعتادة الى شرق آسيا. حيث عناصر هذه البقعة الجغرافية تؤهلها للقيام بهذا الدور. وأول هذه العناصر هي الديموغرافيا حيث تعداد النفوس الذي يصل بحدود ثلاثة مليارات نسمة، وهو ما يعادل نصف عدد سكان الارض جميعاً. وكذلك هي مركز اقتصادي كبير جداً، حيث الصين التي تشكل ثاني اقتصاد في العالم وبدخل قومي مقداره 8.2 تريليون دولار، كما اليابان التي هي ثالث اقتصاد عالمي وبدخل قومي مقداره 5.96 تريليون دولار، إضافة الى اقتصادات مهمة أخرى في هذه المنطقة من بقية دول النمور السبعة.
في هذه الرقعة من الكون تم فرض النظام الليبرالي على اليابان بالضربة النووية الامريكية في هيروشيما وناكازاكي، بينما اختطت الصين لنفسها المسار السياسي الشيوعي، وهنا برزت كوريا الشمالية كدولة عازلة بينهما. وقدر الدول العازلة أنها دائماً تدفع أثماناً كبيرة لصالح تأمين الامن القومي للآخرين. لذا هي بالنسبة للصين إحدى المسلمات الجيوسياسية التي لا يمكن أن تتخلى عنها، لأنها حاجز طبيعي لها من أي تعرض خارجي، وأنها حائط الصد ضد القوات الامريكية الموجودة في كوريا الجنوبية. كما أن موقعها المجاور للصين حيث المركز الاقتصادي المهم في العالم، وموقعها المجاور لكوريا الجنوبية التي هي أحد نمور آسيا الاقتصادية وكذلك اليابان، جعلها محط اهتمام كل هذه الاطراف وباتت حريصة على عدم الافراط في إغضابها، لان أي حركة عسكرية من كوريا الشمالية ستؤثر في الدينامية الاقتصادية لهذه المنطقة.
في العام 1952 تم تقسيم الجزيرة الكورية الى دولتين شمالية وجنوبية، وتقاسم الجباران – الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي – خريطتها بعد الحرب العالمية الثانية، بشرط أن تقوم الامم المتحدة بتوحيد الجزيرة. فانتهجت «الشمالية» النظام السياسي الشيوعي، بينما «الجنوبية» انتهجت النظام السياسي الليبرالي. آنذاك نفى الامريكان أن تكون كوريا الجنوبية من ضمن مناطق النفوذ الخاصة بهم، مما دفع ستالين الى تشجيع الزعيم الكوري الشمالي كيم إيل سونغ لاجتياح كوريا الجنوبية بهدف توحيد الجزيرة، لكن الامريكيين تصدوا لهم وأعادوهم الى الخط 38 الفاصل بين الجزءين.
كانت استراتيجية كل زعماء كوريا الشمالية هي المضي في الطريق الذي اختاروه دون الالتفات الى ثمن خياراتهم، حيث يتبنى النظام السياسي فيها آيديولوجية (الجوشي) وتعني في اللغة الكورية الاكتفاء الذاتي في كل الجوانب الحياتية، مع الاقفال على الذات والاتكال عليها في كل شيء. كما أن الايمان بالانسان كسيد كل شيء هو العنصر الاكثر حماسة في هذا المبدأ. هذه الايديولوجية تعني للكوريين ثلاثة مبادئ أساسية:
أولاً الاستقلال السياسي التام والناجز الى حد عدم الاعتراف بأن استقلال الدول في عالم اليوم المعولم بات قضية نسبية. ثانياً الاكتفاء الاقتصادي الذاتي وفي حالة الضرورة القصوى يمكن الاعتماد على الاصدقاء أو الحلفاء. ثالثاً الاعتماد على النفس في الدفاع مما يتطلب تطوير قوة ردع مدمرة يتهيّب منها الاعداء.
أما المسلمات الاساسية لكوريا الشمالية فهي الحفاظ على النظام السياسي القائم وتقديس الزعيم، وتأمين الحدود الشمالية للدولة بشكل تام، واعتماد استراتيجية اللعب على المتناقضات في العلاقات الدولية. وعلى الرغم من حالة العداء التام بينها وبين الولايات المتحدة الامريكية، لكن حصل تواصل بين الطرفين منذ العام 1994 وحتى اليوم بحدود 37 مرة كان كفيلاً بتخفيف حدة التوتر. كما توجد حالة عداء متبادل بين كوريا الشمالية واليابان، فلازال الساسة اليابانيون ينظرون الى كوريا بأنها الممر الذي سهّل للمغول الدخول الى بلادهم قديماً. على الطرف الآخر فإن الكوريين لا ينسون الاحتلال الياباني لبلادهم عام 1910 حتى العام 1945، والذي كلفهم الكثير الكثير مادياً ومعنوياً وسبعة آلاف إنسان قُتلوا على أيدي اليابانيين في تظاهرة خرجت في كوريا ضد الاحتلال.
وعلى الرغم من التجارب العسكرية المتواصلة للكوريين الشماليين في السنوات القريبة الماضية، فإن التوتر بينهم وبين الامريكيين لم يصل الى المستوى الذي هو عليه اليوم. حيث كان هنالك خمود في السياسة الخارجية الامريكية، خلال السنوات التي كان فيها أوباما سيد البيت الابيض الأمريكي. لكن يبدو أنها ستعود إلى حالتها الاولى في عهد الرئيس الحالي ترمب. وأن مبدأ العقاب على السلوك غير الصحيح سيعود مرة أخرى الى السياسية الامريكية حيث ظهر هذا المصطلح في عهد الرئيس الامريكي الاسبق روزفلت، واستُخدم بحق الانظمة التي لم تلب متطلبات السلوك الصحيح حسب المقاييس الامريكية.
لذا فإن استخدام القوة وتنفيذ العمليات السرية لتحقيق أهداف تغيير الدول وتبديل الانظمة ستكون بهذه الدرجة أو تلك جزءاً من السياسة الخارجية الامريكية.
فأمريكا منذ إقرار مبدأ (مونرو) في عشرينيات القرن الماضي وهي دائماً على طريق إما التدخل في شؤون البلدان الاخرى أو عدم التدخل مع إعطاء دور للامم المتحدة. أي بين سياسة الانعزال وسياسة التدخل حيث كل السياسة الامريكية تسير تحت هذه الراية. وفي تقاليد سياستها الخارجية، وفي آيديولوجية هذه السياسة يوجد ويتطور دائماً الجزء التوسعي عالمياً، وهناك في النخبة الأمريكية الحاكمة من يرى أن أمريكا يجب أن تهتم بمصالحها الاستراتيجية بعيدة المدى وبتطورها الاقتصادي والاجتماعي. حتى أن بعضهم يعلن أن أمريكا على درجة من الجبروت، تجعل كل المؤسسات الأممية التي نشأت في عصر الثنائية القطبية غير صالحة وغير مطابقة لنظام العلاقات الدولية الراهن.
إننا نرى بأن في عالمنا المعاصر هناك محاور لقوى معاصرة ليس بوسعها أن تكون نقيضاً للولايات المتحدة، ولكن من المستحيل جداً أن تكون قادرة على التفاعل معها، وكوريا الشمالية هي إحدى هذه الدول إضافة إلى بلدان أمريكا الجنوبية وغيرها. وبذلك فإن السيناريوهات بين أمريكا وكوريا الشمالية حسب رأينا ستكون بصور ثلاث. أولها هو أن يبقى الوضع في حالة تأزم كما هو اليوم بعد عمل إدارة وإصلاح له.
السيناريو الثاني هو أن يصبح الوضع في كوريا كما تريده أو تتوقعه أمريكا. أما الثالث فهو السيناريو السيئ. لكن هنالك ما هو غير متوقع أيضاً، والذي يمكن أن يحصل في أي وقت. فاليوم يرى ترمب بأن أكبر عيوب أوباما أنه وضع نجاح او فشل استراتيجيته بيد الآخرين. ومثال ذلك هو وضع خط أحمر لبشار الاسد وكان يأمل ان لا يتجاوزه، لكن عندما تجاوزه الأسد عملياً كان لزاماً على أوباما أن يتحرك لكنه لم يفعل، فشكل ذلك فشلًا ذريعًا للاستراتيجية الامريكية. هذا الموقف لا يريد ترامب أن يفعله مع الرئيس الكوري الشمالي، لانه يرى أن القيام بذلك يعطي انطباعاً له أنه لا يريد التدخل.
نقلا عن “القدس العربي”