اراء و أفكـار

لماذا تستسلم الدول العربية للذبح كالخراف؟

سوسن أبو حمدة
يبدو أننا بدأنا نخرج من حالة الذهول ونحن نتابع ما يعصف بالعالم العربي الى حالة التسليم بما هو مقبل، الاستعمار يعود بوحشية. أمريكا وإيران في العراق، روسيا وإيران وتركيا وأمريكا في سوريا، أمريكا وإيران مرة أخرى في اليمن، فرنسا وأمريكا وبريطانيا وإيطاليا في ليبيا والروس في طريقهم إليها.
إذن مرحلة خطيرة تمر بها الدول العربية تقلب قاع الأرض على سطحها، تتمثل بعودة الاستعمار بأشكال وأنماط متعددة. لكن التطور الأخطر في مشهد اليوم أن الأنظمة العربية هي من تستدعي الاستعمار، فلم تعد القوى الاستعمارية التقليدية أو الحديثة بحاجة لاستخدام القوة لاحتلال دولة ما، فلا يلزمها أكثر من إذن أو دعوة توجه إليها من هذه الحكومة أو تلك.
يخطئ من يعتقد أن الدول العربية خرجت من بوتقة الاستعمار بعد مرحلة الاستقلال، فالاستعمار ظل حاضرا عبر قواعده العسكرية ودبلوماسيته الخبيثة وسفاراته الثعلبية، التي لعبت دورا ماكرا يوازي التدخل العسكري المباشر. الفكر الاستعماري تطور من مرحلة استخدام القوة للسطو على دولة معينة، إلى مرحلة خلق أنظمة أو مجموعات أو نماذج تلبي طموحاته دون خسائر تلحق به. بغداد شكلت الاختبار الأول عربيا لنجاح تطور الفكر الاستعماري، ففي يوم أسود من عام 2003 لا يشبه بسواده أي يوم، فُتحت أبواب بغداد العصية أمام الامريكيين فدخلوها آمنيين فاتحين. في ذلك اليوم صعد جندي أمريكي الى أعلى تمثال الرئيس الراحل صدام حسين ووضع العلم الامريكي على رأسه وسط تصفيق وهتافات العراقيين. لعل هذا المشهد اختزل في وقته ويختزل الآن التحول الخطير لعلاقة الشعوب العربية بالمستعمر واعتباره المنقذ المخلص.
في ليبيا لم يكن هناك اعتراض على تدخل الناتو بقيادة فرنسا وبريطانيا لإزاحة القذافي، فمن قادوا التغيير في ليبيا اعتبروا أن هذه الدول تساندهم لنيل حرية تعطشوا لها. لن ننسى في عام 2011 الحفاوة التي استقبل بها الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ورئيس الوزارء البريطاني ديفيد كاميرون في طرابلس، تقديرا لدورهما في إسقاط القذافي، يومها وفي صورة تأريخية تعانقت أيدي حكام ليبيا الجدد مع المستعمرين الجدد معلنة النصر، وهنا مشهد آخر من ترحيب قوى التغيير العربية بالاستعمار واعتباره المخلص.
لابد أن تفرد الانظمة العربية بالحكم واعتباره قائما على أساس»الحاكم هو الدولة» و»الدولة هي الحاكم» يفسر فكرة الترحيب بالقوى الخارجية للتخلص من أنظمة أنشأت دولها على قاعدة التسلط والإقصاء وما نتج عنه من ظلم وقهر قاد إلى الترحيب بالمستعمر.
إذن الأنظمة العربية ارتكبت جريمتين بحق شعوبها، الأولى أنها جعلت تلك الشعوب المغلوبة على أمرها تتقبل الاستعمار لتتخلص من حاكمها، والجريمة الثانية أنها هي من استجلبت الاستعمار لإنقاذ عروش التسلط.
في سوريا، النظام هو من استنجد بالمستعمرين الجدد من الروس والايرانيين لإنقاذ البلاد من الجماعات الإرهابية كما يقول. إيران وروسيا قالتا بوضوح لقد أتينا بطلب من الحكومة الشرعية. لكن السؤال المهم هل سيخرج الروس والإيرانيون من سوريا بعد انتهاء مهمتهم؟ أم سيأسسون لمرحلة استعمارية جديدة مع الأتراك الذين استجلبتهم المعارضة المسلحة أيضا؟ إيران نجحت بتطوير مفهوم الفكر الاستعماري، ولكن على أساس مذهبي، استخدمت عمامتها الدينية لاستمالة بعض «العرب الشيعة» في بعض العواصم العربية، ونجحت فعلا في خلق كيانات سياسية ومليشيات عسكرية حققت لها الاختراق السياسي والعسكري لأربع عواصم عربية حتى الان هي، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
تفوقت إيران في تحقيق تمددها بعد أن خلقت واقعا عسكريا خطيرا بإحكام قبضتها على قلب العالم العربي. تتحدث إيران صراحة الآن وبقوة لا مثيل لها عن مشروعها الأيديولوجي المذهبي في المنطقة وتتقدم بخطوات واثقة نحو أهدافها ضمن تحالفات أمريكية روسية وصمت اسرائيلي. مفهوم الاستعمار واضح، دولة الاحتلال تسعى للسيطرة على المشهد السياسي والعسكري للدولة المحتلة، وهذا ينطبق على إيران في العواصم العربية التي اكتسحتها أو تقاسمت اختراقها مع قوى غربية أخرى. فما التوصيف الذي يمكن أن نطلقة على جمهورية ايران الاسلامية؟ وهل نخطئ اذا اعتبرناها قوة استعمارية جديدة؟
وفي مشهد آخر نستذكر دور الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح في إباحة الأراضي اليمنية أمام الأمريكيين، تحت ذريعة محاربة «القاعدة»، ولعل عملية الإنزال الأمريكية الأخيرة في اليمن، التي تمت في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تفسر هذه الاستباحة التي أورثتها لنا تلك الأنظمة. قد نلحظ أيضا أن الدور الخطير لبعض الانظمة العربية في جلب الاستعمار تجاوز حدود دولها ليمتد الى دول عربية أخرى. مصر والامارات تتعاونان وتنسقان مع قوى غربية في ليبيا لتصفية حساباتهما مع بعض الجماعات على الارض الليبية، والروس كما تتحدث الأنباء في طريقهم إلى ليبيا، والنظام في مصر سيكون رأس الحربة في تنسيق أي وجود محتمل لهم في ليبيا. ونحن نعدد أوجه الاستعمار في العالم العربي ولا يمكن أن نحصيها، نضع القواعد العسكرية التي تستوطن الوطن العربي وخليجه ضمن أوجه الاستعمار الخبيثة. الأنظمة العربية تحايلت على الشعوب وشرعنت وجودها عبر اتفاقات أمنية وعسكرية. لا نعلم ما الهدف من هذه القواعد الأمريكية والفرنسية والبريطانية في الخليج العربي؟ وما الحاجة إليها الآن بعد انتهاء دورها بإسقاط العراق؟ وكم هي الأموال التي تنفق على هذه القواعد وجنودها؟ ولماذا لم تساند هذه القواعد السعودية في تأمين حدودها من هجمات الحوثيين، إن كان من أهدافها الحفاظ على أمن الخليج؟ وما مبرر وجودها بعد تصالح الغرب مع إيران والاعتراف بها قوة اقليمية نووية؟
يقول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إنه قادم ليقلب الطاولة على إيران، فهي راعية الارهاب الأولى في العالم، كما وصفها، فهل ترامب جاد حقا بتوصيفه لإيران؟ أم أننا أمام ابتزاز سياسي ومالي جديد للدول الخليجية التي يبدو أنها لم تتعلم الدرس من إدارة أوباما وهرولت للإشادة بتصريحات ترامب واللحاق بها. وماذا عن الحلف العربي الإسرائيلي الذي يسعى ترامب لتشكيله لمواجهة خطر إيران، كما كشفت «وول ستريت جورنال»؟ نتنياهو صرح علانية لقناة «سي بي إس» الأمريكية أنه لا حاجة لتأسيس تحالف مع السعودية فالتحالف موجود أصلا، وأفاض نتنياهو بأن العرب لا ينظرون الآن لإسرائيل كعدوه محتلة وإنما حليف، ولعل لقاء العقبة السري يؤكد ذلك.
إذن إرثنا للأجيال القادمة وفق معطيات المشهد الحالي هو الاستعمار والعرب غير قادرين على مواجهته. الأنظمة العربية تمسكت بالاستعمار بعد مرحلة الاستقلال، واعتبرته ضمانا لوجودها فقدمت له التنازلات ومنحته امتيازات على حساب سيادتها، فأورثتنا ذل الأوطان والإنسان.
وما يثير الضحك والبكاء معا استغفالنا وإقناعنا بأن مفاتيح الحل في جيب المستعمر، التي انتزعها من أيدينا بالدم، فأصبحنا لا نستطيع أن نجلس إلى طاولة واحدة لحل خلافاتنا دون وجوده حاكما ماكرا بيننا. روسيا أعلنت أنها تكتب دستور سوريا بحبر قيصر، خطَ في أول السطر الجمهورية السورية بدلا من الجمهورية العربية السورية. إسرائيل أعلنت أنها ستستقبل مئة طفل يتيم من سوريا، وستبحث عن عائلات عربية لتبنيهم. أمام هذا العجز والذل الذي يهاجمنا دون رحمة، ألا يحق لنا أن ندخل في نوبة ضحك لا تنتهي ثم نبكي بعدها بكاء عاجز لا ينتهي.
لم يتعلم العرب من ماضيهم ومن نكث الاستعمار لوعوده، لا بد أنهم نسوا كيف نقضت بريطانيا وعودها للشريف حسين بن علي وأوهمته بالحرية عن الأتراك، وبدولة عربية موحدة ليستفيقوا على اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت إرث الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا ولم تمنحهم الحرية.
الأمريكيون وعدوا العراقيين بالديمقراطية لكنهم أخلفوا وبذروا على أرض العراق الطائفية، فأنبتت نباتا ساما فاحت رائحته لتنعش فتنة خامدة في صدور حاقدة. وفي ليبيا تعرت لعبة الدول الاستعمارية بأقبح صورها عندما كشفت تسجيلات لطيارين مشاركة فرنسا وبريطانيا وأمريكا في تنسيق وتنفيذ ضربات جوية لمساعدة خليفة حفتر خفيةً في السيطرة على شرق ليبيا، بينما تبارك هذه الدول أمام عدسات الكاميرا حكومة الوفاق الليبية المدعومة دوليا.
هذا هو الاستعمار وهذا هو وجهه القبيح الذي قطّع أوصالنا وجسورنا مع الوطن وجعلنا كاليتامى بلا أوطان فإما أن تختار الموت في الوطن وإما أن تذهب للبحث عن وطن. لا بد أن القدس تلبس الحِداد كل صباح وتَبكي بغداد.

نقلا عن “القدس العربي”

مقالات ذات صلة