اراء و أفكـار

سورية: دور أميركي جديد وخيارات وتحالفات معقدة

جميع الأطراف المعنيين بالحرب في الرقة أمام خيارات صعبة. الإدارة الأميركية الجديدة تحاول عبثاً حتى الآن التوفيق بين الكرد وتركيا، خصوصاً في سورية. ترغب في التعاون بين الطرفين. لكن المسألة معقدة. وهذا ما دفعها إلى دخول منبج لقطع الطريق على أي مواجهة بين الطرفين. وأرسلت وحدة مدفعية من مشاة المارينز لمساندة «قوات سورية الديموقراطية» وجلها من وحدات «الحزب الديموقراطي الكردستاني» الذي ترى إليه أنقرة ذراعاً لـ «حزب العمال» المصنف إرهابياً أميركياً وأوروبياً وتركياً بالطبع. هذه الوحدة على قلة عديدها تشي صراحة بأن واشنطن تريد توكيد قدرتها على تحرير «عاصمة الخلافة» من دون الحاجة إلى سند تركي. أو أن هذا السند يجب أن يظل في إطار قيادتها. وتريد أيضاً أن تأخذ زمام المبادرة لحسم المعركة ميدانياً، تماماً مثلما أشرفت روسيا على إنهاء معركة حلب. بالطبع لا ترغب في مشاهدة الرئيس رجب طيب أردوغان يذهب بعيداً في «شراكته» مع الرئيس فلاديمير بوتين.
الرئيس التركي هو الآخر يخوض امتحان خيارات صعبة. يعول على تصحيح العلاقات مع واشنطن بعدما شابها فتور كبير أيام إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. وقدم جملة من التصورات والخطط للتعاون في تحرير الرقة. لكنه سرعان ما فوجئ بالعلم الأميركي يرفرف في منبج. وأدرك أن للرئيس ترامب تصوراً خاصاً. بل بدأت دوائر في حكومته ترتاب في أن الولايات المتحدة ربما تعمل على إقامة منطقة آمنة للكرد السوريين شرق الفرات تسهل لها حضوراً قوياً في بلاد الشام. والأخطر أنها تعي تماماً أن قيام كردستان جديدة شمال شرقي سورية تخضع لنفوذ عبدالله أوجلان يفاقم مشكلتها مع الأكراد في الداخل وعلى الحدود. هي تتعايش مع كردستان العراق حتى الآن لأنها تعول على تنسيق واسع مع رئيس الإقليم مسعود بارزاني. فالأخير يحتاج بدوره إلى توسيع دائرة تحالفاته لمواجهة صعوبات مصيرية. إنه على خلاف مع بغداد، ومع شركاء لدودين في الإقليم من حزب الاتحاد الوطني و «حركة التغيير»، وأخيراً مع «حزب العمال» الذي بات يقتطع مساحات واسعة في سنجار ومحيطها إلى داخل سورية في مناطق سيطرة «وحدات حماية الشعب»، وينسق مع «الجيش الشعبي» العراقي. لذلك لا يجد أردوغان بديلاً من مواصلة نهج التوجه نحو روسيا التي قدمت له دعماً في حسم معركة الباب بعد أشهر صعبة لم تحرك فيها قوات التحالف الدولي ساكناً لمده بالعون اللازم. لكن مشكلته أنه لا يمكن أن يجمع بيد واحدة بين القطبين الأميركي والروسي، علماً أن الطرفين قد يقبلان على مواجهة حول الدور الإيراني في المشرق العربي كله، إذا لم يتوصلا إلى تسوية أو صفقة تبدو بعيدة المنال حتى اليوم. وهو إنما يخوض صراعاً لتقليص نفوذ طهران، ولا يمكنه المغامرة في الخروج من حلف شمال الأطلسي مهما بالغ في التقرب من موسكو وفي توتير علاقاته مع أوروبا وألمانيا بالتحديد. علماً أن الكرملين اقترح صيغة دستور جديد لسورية يمنح الكرد ما يشبه الحكم الذاتي. ومعروف أنه اقترح في مناسبات سابقة صيغة فيديرالية. وهو ما لا يروق لأنقرة.
وتضيق الخيارات أيضاً أمام الرئيس بوتين. هناك تشكيك بأن تدخل قواته العسكرية وما حقق للنظام السوري من أرجحية ميدانية لم يترجم حتى الآن قدرة على تسويق تسوية سياسية ترغم شريكيه السوري والإيراني على القبول والانصياع لمشروعه أو خططه. وهو يدرك أن أي تفاهم محتمل مع واشنطن سيدفعه إلى مواجهة مع هذين الشريكين. فالإدارة الأميركية الجديدة لن تقبل ببقاء الرئيس الأسد، وتنادي من اليوم بوجوب خروج القوات الإيرانية وميليشياتها من سورية. وهي دعوة حملها إليه أخيراً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي أعلن أنه لا يمكن القبول بأن «يحل الإرهاب الإيراني مكان إرهاب داعش والنصرة». وطالب موسكو بضمانات لمرحلة ما بعد التسوية في سورية وأولها منع الجمهورية الإسلامية من تعزيز وجودها في بلاد الشام. وهو ما لا يقدر عليه الكرملين من دون المجازفة بعلاقاته مع طهران. أي أن التفاهمات التي كانت قائمة بين الرئيس بوتين ونتانياهو حتى الآن تواجه وضعاً جديداً الآن. ولا يمكن الزعيم الروسي في التحولات الجديدة التوفيق بين مطالب إسرائيل وطموحات إيران. أبعد من ذلك كان لافتاً أن موسكو أدت دوراً وسيطاً، في اجتماع أنطاليا الثلاثي لقادة الأركان الأميركي والروسي والتركي. نأت بنفسها عما يجري في منبج لأنها لا ترغب في صدام أميركي كردي – تركي قبل اتضاح مستقبل علاقاتها مع الإدارة الجديدة. علماً أنها لم تعد تعلق آمالاً واسعة على تنسيق أو تفاهم مع واشنطن، أقله في المدى المنظور.
أما إيران فقد تكون الأكثر ارتباكاً على أبواب تحولات استراتيجية مصيرية بالنسبة إلى مستقبل دورها في الإقليم. لا ترتاح بالتأكيد إلى سماع مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، بعد تصريحات نتانياهو، تساوي بين إخراجها ووكلائها من سورية وإخراج الإرهابيين منها أو «تأمين حدود آمنة» لإسرائيل. دائرة المواجهة مع الخصوم تتسع، من الخليج إلى تركيا. وتتوجس من تفاهمات بوتين مع كل من أردوغان ونتانياهو، واحتمال تصحيح العلاقات بينه وبين نظيره الأميركي. وهي تراقب بحذر توجهات حكومة بغداد نحو واشنطن والحضور العسكري المتنامي في كل من العراق وسورية. لم يكن كافياً رؤيتها دور القوات الأميركية في الموصل حتى جاء العلم الأميركي يرفرف في منبج على بعد مئات الأمتار من انتشار قواتها وميليشياتها. وهي باختيارها التسليم على مضض للشريك الروسي لخشيتها من خسارة آخر حليف على أبواب المواجهة المقبلة، تجازف بفقدان قدرتها على إرساء دعائم مشروعها في سورية مقابل ما ترسم موسكو من تسوية سياسية لهذا البلد، وما قد يحمله الانخراط الأميركي الجديد. أما الأطراف السورية المتناحرة فخياراتها تكاد تكون معدومة، ولا تحتاج إلى توصيف. النظام حائر بين حليفين لا يرحمان لا يملك القدرة على المواجهة من دونهما، وما بقي له من قوات أصابها الانهاك بعد ست سنوات. والمعارضة على حالها من الانقسام وفقدت المبادرة أمام لعبة الكبار، وارتضت فصائل كثيرة أن تنحني أمام الضغوط الإقليمية والدولية…
أمام هذه التعقيدات والتحالفات الدقيقة والهشة في آن والخيارات شبه المستحيلة للقوى المتصارعة في الساحة السورية تبقى التسوية بعيدة. صحيح أن إدارة الرئيس ترامب أبدت تأييدها لمساعي المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، لكن الصحيح أيضاً أنها لم تكن متحمسة إلى استعجال مفاوضات جنيف الأخيرة. ولن يطرأ ما يدفعها إلى تبديل موقفها. انطلقت من فشل الصيغة السابقة من التعاون بين وزير الخارجية السابق جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف. وتريد استعادة دور أميركا في المنطقة كلها والعودة الساحة السورية في مقابل تعثر أو تباطؤ الدور الروسي. لذلك لم يأت دخول قوات أميركية منبج للحؤول دون اندفاع تركيا جنوباً وتفادي الصدام مع الوحدات الكردية فحسب. بل إن هذا الدخول معطوفاً على تعزيز وجودها بوحدة مدفعية يضيف عنصراً جديداً إلى المشهد الاستراتيجي: لا بد من حضور أكبر على الأرض قبل البحث في أي تعاون كانت موسكو ولا تزال تعرضه على واشنطن. وربما يبدأ اختبار هذا العرض مع تصعيد الحملة على الرقة. ستكون مناسبة لاختبار قدرة الكرملين على التأثير أو الضغط على إيران ونظام الرئيس بشار الأسد. فهي لا ترغب في رؤية قوات النظام وحلفائها من الإيرانيين يملأون الفراغ بعد دحر «داعش». ولا ترغب حتى في رؤية قوات تركية أيضاً.
ومعروف أن ما يعوق تعاون واشنطن مع موسكو حتى الآن هو المستجدات التي تطرأ يومياً على قضية الاتصالات بين عاملين في إدارة ترامب أو قريبين منه ومسؤولين روس أثناء الحملة الانتخابية. في أي حال إن غياب مثل هذا التعاون مع رفع وتيرة التدخل العسكري يفاقم مسار التسوية. فكثيرون في موسكو باتوا يشعرون بخيبة أمل. ويستبعدون قيام تعاون واســع بين بلادهم والولايات المتحدة. وينعكس هذا بدوره على غياب التعاون بين القوتين الكبريين والأطراف الإقليميين. من هنا يبدو أن الانخراط الأميركي قد يتصاعد في ساحة تزداد ازدحاماً وتشابكاً، خصوصاً أن إدارة ترامب لم تقدم شرحاً وافياً عن أهداف هذه الخطوة. فهل هي بداية استراتيجية واضحة لما تريده في سورية أم أن الأمر لا يعدو كونه خطوة عسكرية لمنع «داعش» من التمدد والحؤول دون صدامات في الميدان تعوق معركة تحرير الرقة. إن استئناف جولة المفاوضات في جنيف بعد أيام سيشكل امتحاناً لتوجه واشنطن التي لا شك في أنها ترغب في دور قيادي للتسوية بعد فشل الجولات الثلاث السابقة… فهل تقدم؟ وهل ترضى موسكو بمزيد من التقاسم والشراكات في سورية على حساب دورها الأساس؟ أم أن الجولة الرابعة المقبلة ستكون الأخيرة؟

نقلاً عن ” الحياة اللندنية “

مقالات ذات صلة