اراء و أفكـار

«الشرق الأوسط الجديد» بين الزمنين الديموقراطي والروسي

أكرم البني

لا يخطئ من يدرج التداعيات السياسية للتدخل العسكري الروسي في سورية وما يرافقه من تحالفات دولية وإقليمية تحت عنوان «شرق أوسط جديد» تؤسس له موسكو، في مقاربة ومقارنة بمشروع الشرق الأوسط الجديد أو الموسع الذي كان، منذ عقد من الزمن، عنواناً لخطة الولايات المتحدة الأميركية في إعادة ترتيب شؤون هذه المنطقة من العالم.
والمقاربة تستند إلى أن التدخل العسكري المباشر لكلا الطرفين في المشرق العربي جاء تحت يافطة واحدة، هي مواجهة الإرهاب الإسلاموي… أميركياً، عبر حرب العراق للنيل من تنظيم «القاعدة» انتقاماً لأحداث أيلول (سبتمبر) 2001، وروسياً، من خلال الحرب السورية والادعاء بمواجهة تنظيم «داعش» وأخواته. وتستند تالياً إلى أن هدف التدخل المضمر كان واحداً عند كليهما وجوهره التأثير، كدولة عظمى، في توازنات القوى والنزاعات القائمة لتعزيز ركائز الحضور والهيمنة في الشرق الأوسط، وتوظيف التحكم بممرات منابع الطاقة، من نفط وغاز، في صراع مكشوف للاستحواذ على مزيد من مناطق النفوذ الاستراتيجية، وتالياً على مزيد من الأوراق للتنافس على زعامة العالم عسكرياً وسياسياً واقتصادياً.
صحيح أن مشروع كل طرف ما كان ليتقدم لولا انحسار دور الطرف الآخر، إن في زمن تفردت فيه واشنطن في تقرير شؤون المعمورة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وإن مع تقدم دور موسكو اليوم لملء الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأميركي من المنطقة، وصحيح أن انكفاء واشنطن منح موسكو الإرادة السياسية والهيبة الدولية للتفرد في ترتيب الفوضى الشرق أوسطية الناجمة عن تفاقم الصراعات البينية وتصاعد العنف الأهلي والتطرف الإسلاموي، لكن الصحيح أيضاً أن مسار ووسائل كل من المشروعين تبدو متباينة بشدة، وكذلك فرصهما وآفاقهما.
والمعنى أن البيت الأبيض قرن تدخله العسكري المباشر بإشهار سياسة من نوع مثير تتطلع الى نشر الديموقراطية وفق نمط حياة يقارب النموذج الليبرالي ومعاييره، قاصداً خلق مجتمعات موالية تستند الى علاقات مؤسساتية يجعلها أقل قابلية للارتداد وأكثر استقراراً في مواجهة القوى العالمية المنافسة، بينما حضرت روسيا عسكرياً عبر سياسة تكريس الواقع القائم ودعم استمرار الأنظمة السائدة وتمكينها من مواجهة شعوبها، بغض النظر عن طبيعة هذه الأنظمة، وعن مشروعيتها وطرائق حكمها.
وبعبارة أخرى، إذا كانت واشنطن قد توسلت في مشروعها لشرق أوسط جديد هجوماً ديموقراطياً وتنموياً لإنجاح حملتها المحمومة ضد الأصولية الإسلاموية وفق اعتبار يقول إن الأنظمة الاستبدادية تربة خصبة لنمو وترعرع الإرهاب، وأن الديموقراطية وتنمية المنطقة اقتصادياً وتعليمياً، تشكلان، في المقابل، أفضل المناخات المساعدة على تجفيف منابع الإرهاب وسحب البساط من تحت أقدام قوى التعصب والتطرف، وتخفيف النزعات العدوانية وردود الأفعال الحادة والعنيفة، فإن موسكو عملت وتعمل على محاربة الإرهاب عبر وسائل الإرهاب ذاتها، متوسلة منطق القهر والغلبة، ومستهترة بالمظالم العربية وبالأسباب الاجتماعية والسياسية المحرضة على نموه، ومستقوية بجدوى تجاربها الأمنية في مواجهة أشباهه على أراضيها، والأهم بنجاح القوى المناهضة للديموقراطية في إفشال خطط الإصلاح السياسي والتنموي الكفيلة بمحاصرة التطرف والإرهاب.
واستدراكاً نسأل، ألا يجب أن نخشى من أن تكون الأسباب التي أدت إلى إفشال مشروع بوش عن الشرق الأوسط الجديد وأجهضت محاولات نشر الديموقراطية، هي ذاتها التي تساهم اليوم في نصرة مشروع بوتين، مدعومة بتغطية أميركية بعد وصول ترامب الى البيت الأبيض وبتحالفات إقليمية مع أنظمة مناهضة بنيوياً لأية معالجة جذرية للتطرف والتخلف ولأي تقدم نحو الديموقراطية والمشاركة واحترام حقوق الإنسان؟! وألا يعني الكثير تمكن موسكو من بناء تحالف مع إيران وتركيا لتخميد الصراع السوري وتقاسم النفوذ في المنطقة، مستثمرة ضعف أنقرة وتهتك وضعها الداخلي واستعدادها بعد فشل المحاولة الانقلابية لتقديم تنازلات تمنع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية، ومتوسلة طمأنة طهران بأن روسيا ستبقى خير معين لحماية نفوذها في المنطقة ولإخماد التهديدات التي أطلقها الرئيس الأميركي الجديد ضدها، والأهم مستقوية بسلبية عربية مزمنة وبتواطؤ إسرائيلي ومناخ دولي علامته الواضحة فراغ استراتيجي ناتج من الانكفاء الأميركي وحالة ضعف أوروبية لافتة؟!
وإذ نعترف بأن المشروع الأميركي لشرق أوسط جديد وسم مرحلة من الحض على الإصلاح السياسي واحترام التعددية وحقوق الإنسان، ما وفر موضوعياً مناخاً جديداً ينأى عن استخدام العنف في تسوية النزاعات ويدعو للانفتاح والحوار، مخففاً دوافع الحقد والكراهية وفاتحاً نافذة آمل لتمكين الشعوب من المشاركة ومحاسبة القيادات السياسية عما تقوم به، فإن المشروع الروسي يكرس وللأسف مناخاً عالمياً عنوانه تغذية منطق التسلط والحق للأقوى ولغة العنف والسلاح، ويفتح الباب موضوعياً أمام المزيد من القهر والظلم، موفراً غطاءً مريباً لتمرير أفظع الانتهاكات والارتكابات، ما يغذي ردود الأفعال العنيفة والنزاعات المتخلفة الإثنية والطائفية، والتي لن تقف عند حدود، طالما لم تعالج أسبابها العميقة سياسياً واقتصادياً ومعرفياً.
والحال، إذا كان تطلع واشنطن لنشر الديموقراطية في مشروع تعزيز هيمنتها على الشرق الأوسط قد شكل دعماً موضوعياً لمختلف القوى الديموقراطية في معاركها ضد الاستبداد، فإن الخيار الأمني لموسكو في مواجهة الإرهاب ولإعادة تشكيل هذه المنطقة المضطربة سوف يلقي بظلاله الثقيلة على أمل الشعوب العربية بمجتمعات حرة وواعدة، الأمر الذي يزيد شروط نضال الديموقراطيين، صعوبة وتعقيداً، ويضعهم في مأزق لا يحسدون عليه، ليس فقط بسبب التداعيات الإنسانية المريرة للتدخل العسكري الروسي في سورية، وإنما أيضاً بسبب تنامي شعورهم بالضعف والعجز أمام تمدد الشعبوية والعنصرية في الغرب وتنامي تأثير دور خارجي مريض في تحديد راهنهم ورسم مستقبلهم، يحدوه تقدم مقلق للمصالح الروسية وأهدافها الاستراتيجية في الشرق الأوسط والتي تتعارض اليوم مع حلم الشعوب العربية ببناء مجتمعات ديموقراطية تضمن لها حقوقها وكراماتها وسيادتها الوطنية.

نقلا عن “الحياة اللندنية”

مقالات ذات صلة