اراء و أفكـار

شيوع التسقيط.. سقوط الجميع

بدل ان نرعوي ونترك التسقيط والتشهير والاعتداء على الاخر، باعتبارها امراض قاتلة تدمر المجتمع والحياة وتهددنا جميعاً، فاننا نزداد تورطاً وانزلاقاً لتسقيط غيرنا والتشهير به، دون ان نقبل بان يعاملنا الغير بالمثل، كما تشهد الاحداث الجارية.. فنحن نتجاوز ونعطي لانفسنا حقوقاً ندين عليها غيرنا.. ونسارع لنشر اخبار الاساءة عندما يتعلق الامر بالاخر، او ترويج الاكاذيب المثارة على منافسينا، دون ان ندرك ان هذا دولاب سيدور على الجميع، عاجلاً ام اجلا. فصار لكل فريق اعلاميين يقنبلون الناس في الفضائيات باخطر الاتهامات والمغالطات دون رادع اخلاقي وشرعي وقانوني.. او كتاب ظليين مستأجرين، يتفننون باختلاق الروايات واثارة الفتنة بين اقرب الناس. فيمجدون من يشاؤون وينالون ممن يشاؤون.. بل صار لكل فريق جموع من الصداميين (بكسر الصاد او شد الدال، لا فرق) في المناسبات واللقاءات والاستجوابات والبرلمان، وفي الشارع، على استعداد، للتجاوز بالكلمات النابية والصور الشائنة، ورمي الحجارة والقناني على خصومهم، ويتم ذلك كله باسم الشعب، دون ان يفوضهم الشعب شيئاً من ذلك.. مما افسد الاجواء تماماً، وغيب منطق الحقيقة والعقل والاصلاح وتقويم الامور وتشخيص الاخطاء والجرائم، ليحل محلها منطق الصراخ والفوضى والتسقيط والاعتداء الذي ينتصر فيه الجهلاء والمفسدين ليس الا. في بداية الدورة الثانية لحكومة الاستاذ المالكي كثر التسقيط والتشهير للنيل من هذا او ذاك.. فاستخدمت المواقع السلطوية وغير السلطوية لاتخاذ اجراءات تسيء لهذا الطرف او ذاك.. وفي حينها نشرت سلسلة من الافتتاحيات حول خطورة الموضوع.. ولأن الموضوع يتكرر ليومنا هذا، رأيت من المفيد اعادة نشر احداها والصادرة في ٢٠/٥/٢٠١٢ بعنوان “التراشق الشخصي.. عيب وخلل”:
[“تمارس اليوم شخصنة المعارك وتسقيط الاسماء بما فيها الكبيرة.. ضد رؤساء ومعارضين ومسؤولين كبار ومحافظين وهيئات.. فهل الخلل في المسؤولين؟ ام في النظام وتقاليد العمل والاخلاقيات؟
مع كل ازمة يبدأ التراشق الاعلامي والتسقيط الشخصي.. فهذا تاريخه مشبوه.. وذاك اتصالاته خارجية.. واخر دكتاتور او متورط بفساد او ارهاب. وهذا دليل لامرين على الاقل.. الاول ان جوهر انظمتنا هي انظمة شخصية وليست مؤسساتية.. فالشوارع العامة مملوءة بصور القيادات.. وخطابنا السياسي مملوء بالـ”انا” والتمجيد الشخصي. كان الامر مبرراً في فترات المعارضة.. فالاستبداد يتطلب قوى سياسية بتنظيمات حديدية وقيادات صلبة تتمتع بقدرات المقاومة والصمود مما يرسخ مفهوم القيادة التاريخية الصعبة الاختراق. والثاني ضعف المناهج في الدولة وفي الاحزاب.. فعندما تتصارع المناهج تكسب البلاد.. فتسقط اوراق وتنتصر اخرى.. دون هدر لكرامة انسان او حقوقه. فيزداد الوعي والتقدم ويربح الجميع.. اما صراع الاشخاص، فالتفرد والتمجيد وشعارات الروح والدم.. او رجم وتسقيط واتهامات واكاذيب وسحل وقتل.
وهذا سببه نظمنا الطاردة وليست الجامعة، وما ورثناه منذ الفترة العثمانية وقبلها.. فلم تعرف البلاد طرقاً لتولي المسؤولية وتداولها الا عبر الوسائل التآمرية والعنفية والكيدية. فتعم وسائل التسقيط والادانة على وسائل البحث والمنافسة السلمية والخطط والبرامج والسياسات.
وسببه ايضاً ضعف المهنية وفقدان “دساتير العمل”.. فمن يراجع امهات الكتب كـ”صبح الاعشى” للقلقشندي، و”قوانين الدواوين” لابن مماتي سيجد توصيفاً او “دستوراً” متكاملاً لكل مهنة ووظيفة بشروطها ومتطلبات نجاحها وفشلها. اما نحن فلقد انقطعنا عن الممارسات الجيدة للماضي ولم نبن عليها.. ولم نجار المعايير العالمية الجديدة. فحلت الفوضى وفقدان المعيارية وانتشار اعتباطية الاحكام في النجاح والفشل.. ليصبح احتلال الموقع المعيار الاساس.. فنصفق لمن يحتله، لنرمي عليه المسؤولية عند تركه. فنراكم التخبط والفساد والشخصنة.
وستتضح الصورة اكثر باضافة الاخلاقيات الاجتماعية التي هي رادع مهم لمنع التسقيط اولاً، ولتكريم الشخصيات ثانياً، وحمايتهم ضد “اخطاء المهنة” ليكافئوا على تضحياتهم ومنجزاتهم وهي كثيرة ان نظرنا بانصاف. فالتداول والشفافية والنزاهة والنقد والاستجواب هي ليست تهماً او ادانات بل هي حماية لحقوق المواطنين ولاداء المسؤولين والحق العام.. وان اكتشاف ثغرات او اخطاء تعني تصويب سياسة وليس ادانة اشخاص. فالاخطاء جزء من المسؤولية.. يرتكبها من يعمل.. ويبقى بعيداً عنها من لا يعمل.”].
عادل عبد المهدي

مقالات ذات صلة