اراء و أفكـار

صعود ترامب ظاهرة في مسار كوني مقلوب

لا يُستنفد التاريخ كفكرة وكمفهوم فلسفي في مسار خطي صاعد، بل يتضمن واقعياً انقطاعات وعودات وتراجعات عن مكتسبات عظيمة حققتها البشرية. فممكنات النكوص والانتكاس ملازمة لتجارب البشر الفردية والجمعية كملازمة ممكنات النجاح والتقدم لتلك التجارب. وفق هذا التصوّر غير الخطي للتاريخ، يمكن رؤية التناقض في السيرورة الموضوعية للعولمة، فهذه الأخيرة لا تقتصر على عوامل توحيد العالم ودمجه في مجالات المال والاقتصاد والاتصالات والمعرفة، أي توحيده قطاعياً، بل تنطوي كذلك على عوامل التفتيت والتشطير في قطاعات أخرى ثقافية ودينية وقومية.

وعالمنا الحالي الذي وحّدته الرأسمالية توحيداً تناقضياً، عالم منتكس عن ذروتين كونيتين، هما عصر النهضة وعصر الأنوار، وهاتان الذروتان هما في انبساط مفهوم الإنسان ككائن كلي غير مُستنفد في القطيع الهوويّ (من هوية) أو في الجمهور – الكتلة. وثمة فرق كبير بين عالم رأسمالي ارتبط بهاتين الذروتين، وكان يرفع لواء الكليات (حرية، عدالة، مساواة، وطن، شعب، دولة، حقوق إنسان…)، وعالمنا الرأسمالي الراهن، الذي ضُمرت فيه فكرة الكلي لمصلحة الجزئي والنسبي والهوويّ والمحلوي.

يُعد انتخاب دونالد ترامب، بعد إفصاحه الصريح عن خطاب عنصري وانكفائي في الدولة القائدة للنظام الرأسمالي العالمي، تعبيراً من تعبيرات ضمور الكلية في المجتمع الأميركي وفي العالم، وتعبيراً عن أزمة في الاندماج، وعن نكوص في حركات المجتمع المدني أميركياً وعالمياً. فعندما يعلن فور فوزه، أنه يريد ترحيل ثلاثة ملايين مهاجر من أميركا، ويخطط لفرض «أتاوات» مالية على دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والسعودية مقابل حمايتها عسكرياً وأمنياً، فذلك يشي بامتلاكه عقلية أقرب إلى عقلية «قبضاي الحارة» منها إلى عقلية قائد الدولة العظمى في العالم، كما تشي تصريحاته أيضاً بميله إلى تعزيز اتجاهات الانكفاء الأميركي. والأكثر دلالة من التصريحات ومدى قدرة ترامب على الالتزام بتنفيذها، أن نصف الأميركيين انتخبوه على قاعدتها، وهذا يشير إلى ذاك المسار الكوني المقلوب، الذي انتفت معه فاعلية الدولة العظمى في تجنيس العالم وتوحيده وتحديثه ودمقرطته، وفقاً للنموذج المشرق الذي رسمه المفكر الفرنسي الأصل دي توكيفيل عن «الديموقراطية في أميركا» في القرن التاسع عشر.

وزيادة على انعدام تلك الفاعلية، نرى إشكاليات ذات طبيعة ما قبل حداثية تخترق المجتمع الأميركي في اتجاه معاكس لهذا الدور المفترض، وتهدد العالم أجمع بمزيد من تعميق «الوجه القبيح» للعولمة في مواجهة وجهها التنويري.

ولم يعد تشابك أزمات العالم وترابطها خافيين على أحد، وبالتالي فإن مواجهة تلك الأزمات باتت كونية المنحى، وصارت تستلزم مستوى عالياً من التشاركية بين فاعلين كونيين، بخاصة تلك القوى والتنظيمات والفاعليات، التي تحمل مضامين عمومية كحركات المجتمع المدني العالمي المتطلع نحو التحول إلى «مجتمع مؤنسن»، تتقلص فيه استلابات البشر الناجمة عن تركّز السلطات والثروات بأيدي أوليغارشيات قليلة، ومصادرة الحريات واختلال قواعد العدالة والمساواة وتضخم رأسمال المالي على حساب عمليات الإنتاج الحقيقية، وغرق ملايين البشر في براثن الجهل والفقر والأمية.

وبات واضحاً أيضاً، أنه ليس في مقدور البشرية العاقلة تفكيك منظومات السلاح النووي، ومولدات الاحتباس الحراري والتصحر ونفاد ثروات الأرض، قبل أن تتمكن من تفكيك منظومات أسلحة التدمير الأيديولوجي، التي تفتك وتقتل وتهجّر في بلادنا، وفي مقدمها المنظومات الخمينية والداعشية والصهيونية وما تبقى من أنظمة التسلط والاستبداد، وعملية التفكيك تلك أصبحت أكبر من جهد قومي محلوي، بل هي سيرورة نمو عالمية، تعيد إيقاف الكونية على قدميها باستعادتها روح عصري النهضة والتنوير، وتضع مقدمات ومبادئ لخروج العالم من حكم «القبضايات» بوتين وترامب وخامينئي ونتانياهو وأبو بكر البغدادي، ومن في حكمهم، بوصف هؤلاء جميعاً رموزاً لحركة نكوص تاريخية، نرجو أن لا تدوم طويلاً.

نقلاً عن “الحياة اللندنية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً