اراء و أفكـار

إرهابنا المزعوم وإرهابهم المدعوم

عرفان نظام الدين

لم يعد من الجائز السكوت على الأوضاع الراهنة السائدة في العالم والتي يبدو معها وكأن الحرب أعلنت على الإسلام والمسلمين وتزايَدَ تآمر المغرضين والأعداء والعنصريين في تحالفهم مع الإرهابيين للإساءة إلى الإسلام وتشويه صورته وشن حرب كراهية شرسة ضد المسلمين، وبينهم عشرات الملايين من أبناء الجاليات، وضد قيمهم وثقافتهم وإيمانهم ومسلّماتهم.

صحيح أن الحملة قديمة منذ انتشار الإسلام كدين محبة ورحمة للعالمين، إلا أنها عادت بقوة وتصاعدت خلال السنوات الماضية إلى أن وصلت إلى مرحلتها الخطيرة، بحيث لم تعد من الممكن مواجهتها والتعامل معها بلا مبالاة واستخفاف. فقد اكتملت الهجمة فصولاً مع تكرار العمليات الإرهابية المشبوهة في العالم واتخاذها ذريعة لتبرير الحملة وتظهيرها بإجراءات وقرارات وحشد للرأي العام في مواجهة «إرهاب مزعوم» هو من صنع جهات مشبوهة ومغرضة ألصق زوراً بالدين الحنيف مع غض الطرف عن الإرهاب الحقيقي والظالم المدعوم من الدول، وأوله إرهاب الصهاينة، أي إرهاب الدولة وإرهاب المستوطنين.

وحتى لا نخطئ الحساب، لا بد من البدء بمحاسبة أنفسنا وسؤالها عما قدمنا لتحسين عقيدتنا ومنع تشويه صورتها من طريق العنف والتهديدات والأعمال الطائشة المسيئة، وأين استخدمنا العقل والمنطق والحوار للرد على الحملات المغرضة.

فالتقصير الرسمي والديني والأهلي، وحتى الفردي، فادح وله عناوين عدة بينها المشاركة في تأجيج النيران وتقديم الكثير من الذرائع والاكتفاء بردود الفعل العشوائية والمرحلية والممارسات الغرائزية المضرة.

وكم كررنا التحذيرات منذ عقدين ونبّهنا من خطورة العداء المتدرج ووضعنا اليد على مواطن القصور والتقصير بعد ظهور نظرية «الإسلاموفوبيا»، أو الخوف من الإسلام، ومن موجات إثارة الأحقاد من خطر مزعوم يهدد الحضارة الغربية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار الشيوعية. لكن من دون جدوى… ولا حياة لمن تنادي.

بين هذه التحذيرات ما قدمته من دلائل في محاضرة لي في «بيت القرآن» في البحرين وصدرت في كتاب «الإعلام والإسلام» في العام 1997، أي قبل زلزال تفجيرات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وقلت فيه بالحرف الواحد: «التقصير له أوجه وأشكال عدة تبدأ من غياب التنسيق بين الدول والمنظمات والمؤسسات الدينية والإعلامية، إضافة إلى الشلل والجمود في حركة الدول الإسلامية والمنظمات الإسلامية وعدم التمكن من إيجاد الوسيلة الناجعة لمخاطبة الرأي العام الأجنبي والغربي بعقلانية وموضوعية وأساليب مقنعة لشرح قضايانا العادلة وتقديم صورة الإسلام كدين وأسلوب حياة يصلح لكل زمان ومكان وإثبات دور الحضارة الإسلامية».

وفي التحذير من «الإسلاموفوبيا»، أشرت إلى أنه لا يكاد يمر يوم من دون أن يُنشر خبر مسيء عن المسلمين في وسائل الإعلام أو أن يتعرض المسلمون لتحرشات عرقية وإذكاء العداء ضدهم في المجتمعات الغربية، ما يستدعي الرد على الحملات المغرضة والتصدي لها بأسلوب عصري حضاري ومواجهة كل أشكال التطرّف والعنف وعدم فتح المجال أمام أصحاب الغايات لاستغلالها في الدعاية لتوجهاتهم وسياستهم المنحرفة.

وللإنصاف، لا بد من الاعتراف بأن بعض العرب والمسلمين قدموا للإعلام المعادي وقوداً جاهزاً وخدمات مجانية في وقت يقصر الإعلام العربي في التصدي لهؤلاء وتأكيد تعايش الحضارات وتفاعلها، لا على صراعها، وهو ما تنبه له العاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، بإقامة مركز للحوار في فيينا والبدء بالحوار بين الأديان من جهة وبين المذاهب الإسلامية من جهة ثانية.

وامتد هذا التقصير ليكتمل فصولاً في زلزال 11 أيلول المنسوب إلى «القاعدة» وسط علامات استفهام عدة، ليؤجج نيران العداء ويؤلب الرأي العام العالمي ضد كل ما هو إسلامي وعربي ويمنح ذريعة مجانية لغزو العراق وأفغانستان وتدمير مؤسساتهما وتشريد الملايين وقتل مئات الآلاف من المدنيين وإشاعة أجواء الفقر والنقمة، ما أوجد بيئة حاضنة للتطرف. وكرت سبحة الخطوات المشبوهة وفق المخطط المرسوم في إثارة الاضطرابات وتأجيج نار الفتنة بين السُنّة والشيعة لشق الصف الإسلامي على امتداد المنطقة.

وما زلنا نتذكر رد السيئ السمعة هنري كيسنجر على سؤال عن توقعاته للمستقبل وقال فيه: «100 سنة من الحروب بين السنة والشيعة». كما نذكر تقريراً في الكونغرس ينصح بعدم الوقوف في وجه الثورة الإيرانية ضد الشاه لنسمع بعدها عن «تصدير الثورة الإسلامية» ونشهد فصولاً دامية من العراق إلى اليمن ومن سورية إلى لبنان.

كل ذلك معروف وعلني، إلا أن ما وصلت إليه الأمور أخطر بكثير والآتي أعظم وتهدد تبعاته المصير المشترك في حال المضي في هذا النهج وعدم مد اليد لفتح صفحة جديدة تحقق التضامن وتواجه المؤامرة إذا خلصت النوايا.

ونظرة سريعة على المشهد السياسي في العالم، وفي الغرب خصوصاً، تدلنا على تحولات خطيرة وبروز قوى تدق طبول الحرب وتنشر آفات التطرّف والتعصب. ففي ألمانيا، بدأت شعبية أنغيلا مركل تتراجع لمصلحة اليمينيين والشعبويين والنازيين الجدد بعد سياسة فتح الباب أمام اللاجئين. وفي فرنسا باتت الأبواب مشرّعة أمام اليمين المتطرف بقيادة العنصرية مارين لوبان في الانتخابات المقررة العام المقبل. وفي بريطانيا، هناك حوادث عنصرية يومية، كذلك الأمر بالنسبة إلى دول عدة. أما في الولايات المتحدة، فإن الانتخابات الرئاسية والنصفية للكونغرس قد تحمل مفاجأة فوز دونالد ترامب ومعه قوى العنصرية من مؤيدي تصريحاته النارية ضد المسلمين والأجانب على رغم أنه حاول أخيراً التخفيف من حدتها.

ومن دون أن ننسى عداء إسرائيل وسعيها إلى صب الزيت على النار واستغلال الفرصة لتهويد فلسطين، فإن كل الانعكاسات ستقع على عاتق المسلمين، خصوصاً أبناء الجاليات الذين كانوا يعيشون في أمان نسبي بعدما استقروا في ديار الاغتراب ويقدر عددهم بعشرات الملايين. ففي كل يوم نسمع تصريحات عدائية ضدهم ونشهد تهديدات بإبعادهم وسحب جنسياتهم.

كل هذا بفضل الدور الذي قام به المتطرفون من «القاعدة» إلى «داعش» وما بينهما، فوقع معظم الضرر على المسلمين والعرب وانتشرت آفة الكراهية والإساءة إلى الإسلام، دين التسامح والمحبة والتعايش الذي دام في المنطقة أكثر من 1400 سنة. ولم يقع سوى ضرر طفيف على الدول والشعوب التي ادعى المتطرفون أنها المستهدفة بعملياتهم.

وعندما ندق ناقوس الخطر، فإن هذا يعني أن ما يجرى الآن يشكل بداية وليس نهاية لحرب طويلة. فمن غير المعقول أن تسكت الدول والشعوب والهيئات المعنية عن أعمال إرهابية مشبوهة صنع بعضها من جانب الجهات نفسها التي تستخدمها ذريعة للتحريض. ومن يعتقد أن القضاء على «داعش» وأخواته في سورية والعراق سيؤدي إلى انتهاء موجة الإرهاب فهو مخطئ، إذ يتوقع حدوث ردات ارتدادية تستمر طويلاً في حال عدم اجتثاثها من جذورها والعمل على التحصين بإزالة الأسباب والدوافع وإيجاد حلول ناجعة، ليس بالحوار العقيم والحلول الأمنية وحسب، بل بإجراءات حاسمة مشتركة مع الأخذ في الاعتبار أن ما حصل في الغرب كان صناعة محلية وأن الذين اعتقلوا أو قتلوا هم من جنسية البلاد التي آوتهم مما يستدعي البحث عن أسباب العلل وجذورها والكف عن إلقاء اللوم على الإسلام وتعميم صفة الإرهاب على كل المسلمين، لأن من يتبنى هذا الفكر ويمارس العنف يمثل أقلية تعد بعشرات الآلاف من أصل بليون ونصف البليون مسلم.

ولهذا، لا بد من مراجعة التاريخ والتأكد من أن الإرهاب متأصل عبر التاريخ وله أوجه وأشكال وجنسيات وعقائد عدة وتمارسه دول ومنظمات وعصابات وسياسات وفق حقائق دامغة في سجلات التاريخ، من الحروب الصليبية إلى الاستعمار واستعباد الشعوب والأفراد وغزو دول عربية وإسلامية وقصف المدنيين الأبرياء بالقنابل المحرمة ونهب الثروات.

أما الإرهاب الأسوأ والأشد وحشية وعهراً، فهو إرهاب إسرائيل الدولة والمستوطنين المستعمرين الصهاينة، ولم يوصف يوماً بالإرهاب اليهودي، فهو محلل ومبرر ومدعوم دولياً ويجرى غض الطرف عن جرائمه التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، من المذابح التي سبقت قيام الكيان الصهيوني إلى تشريد الملايين من أبناء الوطن والحق وحشرهم في مخيمات العار والبؤس لأكثر من 68 سنة على مرأى ومسمع المجتمع الدولي المنحاز والعالم الظالم المدعو زوراً بالمتحضر، وصولاً إلى المذابح المرتكبة في الحروب المتلاحقة واحتلال الأراضي وتهويدها وقتل الأطفال وإحراقهم بدم بارد واعتقال الآلاف في سجون رهيبة.

ومع أن المؤامرة الدولية نجحت في جعل فلسطين قضية ثانوية منسية أمام أهوال الحروب العربية، فإن من الواجب إطلاق صرخة مدوية ليسمعها القاصي والداني: كفى خنوعاً وتطبيعاً مع العدو الأول، وكفى خوفاً من مزاعم المغرضين بإلصاق تهمة الإرهاب بدولنا وشعوبنا لتركيعها، ولابد من وضع النقاط على الحروف ووضع الإصبع في أعين المفترين والتساؤل عن الظلم في حصر الإرهاب بالإسلام، بينما لا تتم المعاملة بالمثل عندما تحدث عمليات إرهابية من جانب مسيحيين أو يهود أو بوذيين، ولا سيما ما تعرض له المسلمون أخيراً في بورما (ميانمار) من أعمال وحشية وقتل وتعذيب وتشريد وتنكيل واغتصاب للنساء والأطفال.

ويخطئ من يظن أن القضاء على الإرهاب يمكن أن يتحقق بالغارات والحل الأمني، فالحسم لن يتم إلا باتخاذ خطوات جذرية تبدأ بالمصارحة ووقف تبادل الاتهامات وفصل الإسلام عن الإرهاب وتصحيح الصورة النمطية المتبادلة بين العرب والمسلمين والأمم الأخرى، في الغرب على وجه التحديد، وتحريم الإرهاب بأشكاله وألوانه وجنسياته كافة وسحب الذرائع والحجج والتخلي عن سياسة ازدواجية المعايير في مواجهة الإرهاب.

وأختم مع شاعر العصر الرائع نزار قباني في توصيفه واقع هذه الازدواجية بقوله: «لماذا تبكون على راشيل ولا تبكون على فاطمة؟».

نقلاً عن “الحياة اللندنية”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً