مَنْ يخرق الهدنة في سورية؟
سليم نصار
قبل أن توافق موسكو على الهدنة في سورية، شنت طائراتها غارات مكثفة على مواقع المعارضة بهدف إخضاع الحل السياسي الى مكاسب الحل العسكري. وسارع وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى إعلان موقف واشنطن المخالف لموقف موسكو، مؤكداً أن التسوية السياسية تمثل في نظره، الحل الواقعي لاتفاق الفرصة الأخيرة المتوافرة لإنقاذ سورية الموحدة. وكان بهذا التصريح يدلل على دعم الولايات المتحدة لإبقاء سورية موحدة، من دون أن يشير في كلمته إلى ما إذا كان هذا المشروع سيتم في عهدة بشّار الأسد!
يقول المحللون إن توقيت الهدنة جاء ملائماً لمختلف الدول والميليشيات المتورطة في حرب استمرت خمس سنوات ونصف السنة تقريباً. وظهر هذا الأمر جلياً في لقاء لندن الذي جمع ممثلي الدول التي تقف وراء عمليات تأمين الأسلحة والمال. وجاء الاقتراح الأول ليحدد فترة المفاوضات بنصف سنة، قابلة للتجديد في حال ظهرت بوادر التقدم نحو تسوية مقبولة من قبل الغالبية.
وربما كانت تلك المرة الأولى التي توافق فيها 30 منظمة معارضة على السماح لبشّار الأسد بالبقاء في الحكم خلال فترة المحادثات. أي خلال مرحلة تشكيل حكومة انتقالية تستمر في العمل مدة سنة ونصف السنة. ومن المتوقع أن تصوغ الحكومة الانتقالية دستوراً جديداً، وقانوناً يصلح لإجراء انتخابات ديموقراطية، حيث تمنح النساء ما نسبته 30 في المئة من مقاعد البرلمان الجديد، مع تأمين تمثيل صحيح لجميع الأقليات والطوائف. وتقضي شروط هذه الانتخابات أن تتم تحت إشراف لجنة دولية موثوقة.
مذكرة المقترحات نُشِرَت في ثلاثين صفحة. وجاء في المقدمة شرط يؤكد وقف إطلاق النار من جميع الجهات، مع تعهد شامل بضرورة تسليم السلاح تحت إشراف الحكومة الانتقالية. ويسري هذا الشرط على كل القوى المقاتلة، لا كما حدث في لبنان بعد استثناء «حزب الله» من عملية تجريد السلاح.
اعتبرت الأمم المتحدة أن هذه المقترحات غير قابلة للتطبيق بسبب خلوها من تواقيع الميليشيات المتمردة في ميادين القتال. إضافة الى الدول التي تخوض الحرب بالواسطة، خصوصاً أن رؤى الحل مختلفة بين ما تراه تركيا مثلاً، وما تراه إيران. كذلك، ليس من الواضح أيضاً ما إذا كانت الميليشيات التي تُعتَبَر منظمات إرهابية مثل «جبهة فتح الشام» التي تحارب «داعش»، أو الميليشيات الكردية التي تحاربها تركيا، ستكون شريكة في المفاوضات.
يقول كيري إن جزءاً من الخلاف لم يُحلّ بعد. وهو متعلق بحصار حلب وإصرار روسيا على تحقيق مكاسب يستفيد منها نظام الأسد. وفي رأي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن من الأفضل خلق نقطة تحول عسكرية تقنع زعماء ميليشيات المعارضة بأن من الأفضل لهم الاستسلام على مواصلة القتال. في حين ترى الولايات المتحدة أن من الخطأ مواصلة الاقتتال داخل حلب وضواحيها، على أساس أن مستقبل هذه المدينة سيكون جزءاً من المفاوضات السياسية. علماً أن وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر أعرب عن شكوكه في نيات بوتين الذي يرى في أزمات الشرق الأوسط فرصته التاريخية للإنتقام من الدول الغربية.
كبار المعلقين في واشنطن كتبوا سلسلة مقالات تؤكد أن الرئيس باراك أوباما قرر الانكفاء عن منطقة الشرق الأوسط لمصلحة الشرق الآسيوي، خصوصاً بعدما أجرت كوريا الشمالية تجربتها النووية الثانية. لكن كبار المسؤولين في إدارته يحاولون إقناعه بعدم التورط في حروب آسيا لئلا يكرر أخطاء حرب فيتنام وكمبوديا. وهم يؤكدون له سلبية هذا الخيار لأن الذي يخرج من الشرق الأوسط يخرج من العالم. لذلك يرى هذا الفريق أن عزلة الولايات المتحدة هي أفضل خيار يتخذه أوباما قبل أن يسلم المهمة الى دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون.
يخشى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تطور الهدنة على نحو تستفيد منه موسكو فقط. لذلك أمر قواته بضرورة طرح حقائق ميدانية جديدة، من طريق احتلال قطاع بطول تسعين كيلومتراً على موازاة الحدود مع سورية. وهذا مؤشر واضح عن نيته المبيتة لتعميق سيطرته على مشارف حلب. والغاية من كل هذا إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية بغرض نقل اللاجئين السوريين اليها.
مصادر عسكرية تركية أعلنت أن دخول الجيش إلى سورية لن يستمر طويلاً بعد طرد مسلحي «داعش» من المنطقة الحدودية ومدينة جرابلس. أو بعد طرد «وحدات حماية الشعب الكردي» إلى شرق نهر الفرات.
تؤكد المعلومات أن أردوغان طلب من هيئة أركان جيشه القيام بحملة عسكرية تؤدي إلى طرد مسلحي تنظيم «داعش» من المنطقة الحدودية ومدينة جرابلس، وإبعاد «وحدات حماية الشعب الكردي». كل هذا من أجل منع تشكيل دولة كردية متصلة جغرافياً بشمال سورية.
وذُكِر في حينه أن هيئة الأركان العامة رفضت التدخل المباشر في الحرب الأهلية السورية، ما لم يوافق مجلس الأمن على تلك الخطوة حيث تحظى بتفويض دولي. وربما كانت عملية رفض أوامر الرئيس سبباً أساسياً في استقطاب الشعب، وإصدار مذكرات توقيف بحق كبار الجنرالات من المؤسسة العسكرية. وهكذا أثبتت عملية «درع الفرات» أن الجيش التركي يتلقى أوامره مباشرة من الرئيس.
إضافة الى مكاسب الإنقلاب الذي افتعله اردوغان، فإن مصالحته مع بوتين، بعد إسقاط المقاتلة الروسية «سو-24»، فتحت أمامه مجال العمل في شكل أوسع. ويُقال أن محادثات بطرسبورغ مهدت له الطريق لتنفيذ عملية «درع الفرات». علماً أن هذه العملية أقلقت بوتين لأنها أصابت الأكراد و «داعش» معاً. والثابت أن الرئيس الروسي كان قد وعد الأكراد بالحماية من الأذى الخارجي، لكن الخطوة التي قام بها الرئيس التركي أقلقته مثلما أقلقت حليفه الأسد.
لكن قلق بوتين لم يمنعه من استمالة أردوغان الذي حرص على زيارة موسكو كأول محطة خارجية يصل اليها بعد محاولة الإنقلاب. وكان ذلك بمثابة إظهار استيائه من الولايات المتحدة ضد موقفها الملتبس اثناء إنقلاب 15 تموز (يوليو) وبعده. ونشرت الصحف الروسية على لسانه تصريحاً عبَّر فيه عن رغبته في التزام استراتيجية مستقلة داخل منطقة الشرق الأوسط. لكن مصادر الكرملين تتوقع من أردوغان الانسحاب من عضوية الحلف الأطلسي، خصوصاً إذا فازت هيلاري كلينتون بالرئاسة. ذلك أنها أعلنت صراحة معارضتها لتسليم المعارض المطلوب من أنقرة فتح الله غولن.
يقول الوزير الروسي لافروف إن اتفاق الهدنة ليس الأول من نوعه بين القوتَيْن العظميين في سورية. ففي شباط (فبراير) الماضي، أُعلن اتفاق مماثل برعاية واشنطن وموسكو، وبدعم من الأمم المتحدة. لكنه تعرض لكثير من الانتهاكات، ما يبعث المخاوف من تجدد القصف من قِبل جهات لا يُحسَب لها حساب.
الرئيس الأسد، من جهته، طالب جماعته بالتزام شروط الهدنة، كون الولايات المتحدة اعترفت بوجوده على رأس الحكم، ولو بطريقة غير مباشرة.
اللافت أن روسيا كانت تدعو الولايات المتحدة إلى بذل جهود إضافية من أجل إقرار هدنة تكون المدخل السياسي إلى المفاوضات. وكانت واشنطن ترفض باستمرار المقترحات الروسية. لكن وزير الخارجية الأميركي بعد ساعات طويلة من المفاوضات في جنيف مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، أعطى الضوء الأخضر لإنشاء مركز روسي – أميركي هدفه الإشراف على تنفيذ الهدنة في سورية لمدة أسبوع واحد.
المراقبون في العواصم الكبرى مختلفون حول طبيعة الدوافع التي سمحت للرئيس بوتين بمشاركة واشنطن في تطبيق هدنة لا يحتاجها، خصوصاً أن الدور الاميركي في المنطقة يتعرض للتراجع والإنكفاء بانتظار دخول رئيس جديد (أو رئيسة) الى البيت الأبيض. وفي ظل هذا الغياب، استغل الرئيس الروسي الفرصة لعرض وساطته في اليمن بعدما فشلت المساعي الأميركية في البحث في الموضوع مع إيران، صاحبة النفوذ الأقوى على الحوثيين. وقد اختارت موسكو ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية، كمبعوث خاص للشرق الأوسط بهدف تطويق الأزمة ووقف تفاعلاتها الإقليمية. وباشر المبعوث نشاطه بسلسلة لقاءات شملت ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية عادل الجبير والمبعوث الدولي الى اليمن اسماعيل ولد الشيخ ووزير الخارجية اليمني عبدالملك المخلافي.
كذلك استغلت موسكو تطلع إسرائيل نحوها لتطلب من رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو عقد لقاء مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس برعاية لافروف. ومع أن الموعد النهائي لم يتحدد بعد، إلا أن المراقبين يتوقعون من رئيس وزراء إسرائيل إرجاء اللقاء الى ما بعد مغادرة أوباما البيت الأبيض. والسبب أن أوباما أبرم مع إسرائيل صفقة مساعدات عسكرية قياسية قيمتها 38 بليون دولار تُدفَع خلال عشر سنوات. واعتبر الاسرائيليون سخاء إدارة اوباما بمثابة تعويض عن تجاهل موقف نتانياهو أثناء عقد الاتفاق مع ايران.
قبل شهر تقريباً دعيت مراسلة شبكة «سي ان ان» كلاريسا وورد إلى مجلس الأمن كي تقدم انطباعاتها بعد زيارتها إلى مدينة حلب. وروت لأعضاء المجلس انطباعاتها حيال الفظاعات التي ترتكبها الدول والميليشيات في مدينة حلب. وقالت أيضاً إن القصف المتواصل من الجو والبر حرم الناس مبارحة منازلهم، خصوصاً أن المحلات والمستشفيات والمدارس مقفلة. وذكرت أن الموت يحصد 50 شخصاً كل يوم، وأن هناك 300 ألف نسمة داخل «جحيم حلب». وأعربت عن أسفها لأن اللاعبين الكبار لا يأبهون لصراخ الأطفال ولا لموت 300 ألف مواطن لم يسعفهم الحظ على الهرب. والمؤسف أن الشهادة التي قدمتها الى مجلس الأمن وُضِعَت في أرشيف المحفوظات.
نقلا عن “الحياة اللندنية”