اراء و أفكـار

هل يعني انتصار الطائفية اندحار الوطنية إلى الأبد؟

د. مثنى عبدالله

في كل الحروب هنالك منتصر ومهزوم، حتى في الحروب الفكرية الأمر كذلك. في مرحلة الخمسينينات من القرن المنصرم كانت أقطارنا العربية تعيش انتصار الأفكار القومية، فاصطلح على تلك الحقبة تسمية المد القومي.
ومع بزوغ فترة الثمانينيات ابتدأت الموجة الديمقراطية الثالثة تطل برأسها على العالم، من جنوب أوروبا، حيث إسبانيا والبرتغال، التي تحولت من أنظمة عسكرية إلى ديمقراطية، ثم انتقلت الموجة إلى أمريكا اللاتينية وبعدها إلى أوروبا الشرقية، توجتها بسقوط الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات. ومع كل هذه التحولات المهمة التي طرأت على النظام السياسي العالمي، أقنع الغرب العرب بأنهم حماة المجتمع العربي من الفوضى التي ستهدد مصالحهم، فتأخرت دمقرطة مجتمعاتنا، لأن الغرب وفر الحماية للاستبداد، كما أن القوى الديمقراطية في العالم العربي كانت ضعيفة، لأن الاجندات كانت مختلفة، أجندات تحرير فلسطين وأجندت الوحدة العربية، وبقيت الاجندة الديمقراطية تأتي لاحقا. وقد شهدت هذه الحقبة وضع برنامج انفتاح اقتصادي وليس سياسيا، مع بعض الاجراءات السياسية التي تمثلت بنشوء برلمانات شكلية مقترنة بظهور جمهوريات وراثية، فتزعزعت عناصر بقاء الدولة العربية بسبب الاستخدام غير الشرعي للقوة ضد أبناء المجتمع، وفقدت شرعيتها بسبب عدم قدرتها على إقناع مواطنيها بأنها دولتهم. يقول ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني، الدولة مجتمع بشري يدّعي بنجاح احتكار الاستخدام الشرعي للقوة المادية في أقليم محدد، أي أن عناصر بقاء الدولة الأول أن تكون هي محتكرة لاستخدام القوة، وثانيا أن يكون هذا الاستخدام شرعيا.
في وسط كل هذا الحراك السياسي على الصعيد العالمي والإحباطات على الصعيد العربي، كانت هنالك بذرة طائفية تنمو وتتغذى على كل هذه الأجواء، ومركز إشعاع فكري يتسع ويُنظّر لها، يقوده زعماء الثورة الايرانية التي حدثت عام 1979. لكن ليس انتصار رجال الدين على الحكم الشاهنشاهي هو العامل الوحيد الذي أثار الطائفية، بل اعتمادهم مبدأ ولاية الفقيه، وتحركهم في مواقع لمذاهب أخرى بهدف تغيير معتقدات الناس الدينية والمذهبية، هو الذي أجج الطائفية في المنطقة، ودفع الآخرين لوضع حدود أيضا طائفية لمواجهة دولة تكرّس في دستورها حاكمية مذهب معين، بينما تحاول توسيع حدودها المذهبية على حساب الآخرين، فحصلت المواجهة بين هذا الفكر الطائفي والفكر المعارض في أماكن عديدة في الوطن العربي.
لكن الذي فجر الامور وجعلها أكبر هو سقوط جدران العراق، الذي كان انقلابا تاما من حال إلى حال آخر. فبعد أن كان البلد هو المصد الأول ضد التوسع الايراني في المنطقة العربية، ونبع دماء غزيرة لحماية الأمن القومي العربي، بات المصدر الاول للرجال المدافعين عن تمدد ولاية الفقيه على الارض العربية، وأضحت العروبة والوطنية هما العدوان اللدودان للمذهب، بينما ارتفعت رايات الطائفية إلى بديل مقدس. قد يدعي البعض أن الطائفية لاعلاقة لها بانتصار رجال الدين في إيران، ويرجعونها إلى عدم تفاعل الطوائف والاقليات على الارض، وهو تصور خاطئ، لأنه لو حصل عدم التفاعل لما بقينا نحن نعيش على هذه الارض لحد الان. يوجد اليوم 85 بالمئة من دول العالم فيها أقليات بنسبة أكثر من 20 بالمئة من نسبة السكان.
إن المنطقة العربية اليوم تواجه اصطفافا طائفيا وصل إلى حدود لم نعرفها سابقا، ومن غير الانصاف القول بأن هنالك طرفا واحدا في هذه المعادلة. لقد سقطت المنطقة بين فكي مرشدين كثر وليس المرشد الإيراني وحده. وجميع هؤلاء المرشدين يمارسون تثقيفا طائفيا، يهددون به بإعادة تشكيل الخريطتين السياسية والجغرافية للمنطقة العربية، مستفيدين من سقوط جدار برلين العرب العراق، وكذلك مستفيدين أيضا من حقيقة أن دولنا أنشأت منذ 100 عام، بينما طوائفنا نشأت منذ 1400 عام، وقبائلنا وجدت قبل كل ذلك بقرون عديدة. إلى جانب العنصر المذهبي هنالك تنافس بين الدول وحروب بالوكالة، وتداخل لعناصر متزامنه ومتفاقمة عززت من فرص نجاح العنصر المذهبي. وقد يعتقد البعض بأن القوى الكبرى قد لا تسمح بوصول الامور إلى مديات أخطر مما هو قائم الان، لكن الحقيقة أن القوى الدولية الكبرى عندما تعجز عن حل مشكلة ما، تحاول احتواءها وإدارتها، وأبرز مثال على هذا هو الذي يحصل في العراق، وسورية، واليمن وغيرها. ففي العراق حيث الخراب والدمار والفساد وتبادل الادوار السياسية بشكل غريب، يجري التعويل على طبقة الحكام الفاسدين أنفسهم من قبل الغرب والولايات المتحدة، كما تجري محاولات لإعادة تأهيل النظام السياسي في سوريا، رغم كل الذي حصل ويحصل.
وعلى الرغم من سوداوية المشهد وتغول الطائفية والقبلية، والاهتمام العالي بالجغرافية الطائفية على حساب المؤسسات، التي أوجدتها البشرية باتفاق جماعي عابر للطائفية والمذهبية والإثنية، كي تبني مستقبلها وتعزز الأمن والسلم الأهلي بين جميع الافراد، فإن عودة الوطنية إلى الواجهة من جديد بات أمرا محسوما بعد أن تحولت المجتمعات العربية إلى ركام، والدول إلى كيانات هزيلة فاشلة، وانفجرت الجغرافيا واندلعت الحروب الأهلية، ولم تجلب الطائفية غير الخراب والدمار ونهب المال العام، والتعدي على مصالح وحقوق كل المجتمع. هذه كلها تحديات مصيرية تعيد عملية الخلق والإبداع في الشعوب الحية، وتجعلها تعيد النظر بما حولها، حتى لو كان واقع الحال شارك فيه الكثيرون من بين صفوفهم في دعمه وتقويته والتصفيق له. فالاصوات التي كانت تدعو لتقديس العملية السياسية في العراق، وتبجيل زعماء الكتل والاحزاب والطوائف، خارت قواها اليوم وتحاول ركوب موجة ذات توجهات أخرى مختلفة تماما عن توجهاتها السابقة. نائبة في البرلمان العراقي كانت حتى وقت قريب تدعو إلى قتل سبعة من السنة، حين يقتل سبعة من الشيعة، حتى لو كان الطرف الاول غير مسؤول عن قتلهم، نجدها اليوم ترفع شعارات وطنية وتدعو لمغادرة المحاصصة الطائفية. ورئيس الوزراء الأسبق الذي قسم المجتمع العراقي إلى معسكرين، معسكر الحسين ومعسكر معاوية، يدعو اليوم إلى الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية هو وكتلته السياسية. هذه التغيرات اللامعقولة في المواقف من أقصى إلى أقصى بسرعة الضوء، ليست دليلا على اقتراب الساعة وانشقاق القمر، بل هو هروب من غضبة مجتمعية باتت ترى في كل الوضع القائم شيئا غير معقول ولا يمكن السكوت عنه، إلى الحد الذي أضحى المجتمع ينظر اليه على أنه عار يلاحق جميع من يصمت، ولا يرفع صوته في حضرة الطائفيين واللصوص الجائرين.
إن المزاج الاحتجاجي على خلفية استمرار تفاقم الأزمات الجارية اليوم سيوحد المحتجين، وسيجعل منهم قوة قادرة على التغيير وإسقاط الرموز التي حاولت على مدى سنين طويلة أن تضفي على نفسها لباس القداسة. فالوطنية لن تهزم لانها قيم الحق، بينما تندحر الطائفية وإن تغولت.

نقلا عن “القدس العربي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً