اراء و أفكـار

زيارة تاريخية متأخرة

المسافة بين الولايات المتحدة وكوبا التي تقدر ب 200 كم، استغرق قطعها 88 عاماً، هي المدة الزمنية الفاصلة بين زيارة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما وآخر زيارة قام بها الرئيس الأمريكي الأسبق كالفين كوليدج العام 1928.
زيارة أوباما إلى كوبا تعتبر تاريخية بكل المقاييس السياسية والاستراتيجية لأنها تأتي بعد أكثر من خمسة عقود من العداء بين الجارين اللدودين، تخللتها محاولات غزو أمريكية فاشلة (خليج الخنازير)، ومحاولات انقلاب أكثر فشلاً، وأكثر من 60 محاولة اغتيال فاشلة استهدفت زعيم الثورة الكوبية فيديل كاسترو، وحرب باردة أمريكية متواصلة لزعزعة الاستقرار فيها وإسقاط نظامها الاشتراكي، وحصار اقتصادي خانق بدأ العام 1962 ولم يخف إلا مؤخراً بعد تقارب لعب فيه الفاتيكان دوراً ملموساً أدى في نهاية الأمر إلى إعادة العلاقات بين البلدين وفتح سفارتين في كل من واشنطن وهافانا.
ولا ننسى أن أزمة الصواريخ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق العام 1962 والتي كانت الجزيرة الكوبية مسرحاً لها ، كادت تفجّر حرباً نووية بين الدولتين العظميين لولا وجود عقلاء في البلدين آنذاك توصلوا إلى تسوية الأزمة وإنقاذ البشرية من فناء حتمي.
لذلك، فإن أوباما في زيارته هذه يخترق جداراً سميكاً من العداء التاريخي والحذر وانعدام الثقة، ويؤسس لعلاقات جديدة مع بلد صغير كان على الدوام في مرمى السياسات الأمريكية العدائية من منطلق خلاف إيديولوجي يتعارض بالمطلق مع النهج الرأسمالي الأمريكي، لكنه كان يشكل على الدوام نقطة استقطاب وتأثير في مجمل قارة أمريكا اللاتينية التي كانت على الدوام حديقة خلفية للولايات المتحدة، ومجرد أنظمة منزوعة السيادة تدور في فلكها.
كان من المفترض أن يتم فتح صفحة جديدة بين البلدين منذ سنوات، وقد جرت محاولات سابقة لتهدئة العلاقات بينهما واحتواء الغضب الذي أثارته سياسة واشنطن تجاه كوبا وسائر دول أمريكا اللاتينية.. لقد حاول الرئيس الأمريكي الأسبق جون كيندي بعد أزمة الصواريخ تحقيق تقارب على أمل إخراج كوبا من الفلك السوفييتي لكنه اغتيل، كما حاول وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر تطبيع العلاقات لكنه لم يستكمل المحاولة، وبعد أسابيع من توليه مهماته الرئاسية العام 1977 أمر جيمي كارتر بإطلاق مفاوضات لتطبيع العلاقات.. ومرة أخرى باءت المحاولة بالفشل. أما في عهد جورج بوش الابن فالموقف الأمريكي كان عداء بالمطلق تجاه كوبا، إلى أن أجاز الرئيس أوباما في العام 2013 إطلاق مباحثات استكشافية مع هافانا استمرت في إطار مفاوضات سرية دامت 18 شهراً، حيث جرت لقاءات ثنائية في كل من كندا والفاتيكان.. وفجأة وفي 17 ديسمبر (كانون الأول) 2014 تم الإعلان عن تقارب بين البلدين وتطبيع العلاقات.
أوباما طوى صفحة سوداء في علاقات البلدين، معتبراً الزيارة مجرد «خطوة أولى».
كان يمكن أن تطوى هذه الصفحة قبل ذلك، لكن كانت لدى أوباما الشجاعة أكثر من غيره في أن يمد يده إلى الجارة الكاريبية متخطياً كل الموانع التي اعترضت سابقيه.
لعل الولايات المتحدة اقتنعت بإمكانية التعايش مع نظام مختلف، وحق الشعوب في اختيار أنظمتها، وعدم فرض وجهة نظرها وسياساتها على الدول الأخرى، والتخلي عن منطق الهيمنة والتبعية.

نقلا عن الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً