اراء و أفكـار

اللاجئون والحضارة والأخلاق

إلياس سِحّاب

يبدو أن الأزمات السياسية التي أثارتها دول العالم المتقدم، في دول العالم الأقل تقدماً في السنوات الأخيرة، بشكل خاص، قد أحدثت زحف موجات من اللاجئين المتدفقين من دول الجنوب المتأزمة إلى دول الشمال المستقرة والمزدهرة.
يلفت النظر، في هذه الحالة، التي اضطر العالم المتقدم إلى أن يعقد مؤتمراً خاصاً بها في لندن، لتلاشي سلبياتها عليه، قدر الإمكان، أكثر من ظاهرة:
1- أن موجات اللاجئين تتميز بحالة من اليأس المطلق، إلى درجة أنها تصر وتواصل الإصرار على إلغاء نفسها بين أشداق الأمواج البحرية العاتية، على دفعات متتالية لا تتوقف، وتحصد من أرواحها آلافاً وراء آلاف، ما يشير إلى أن جحافل اللاجئين المتدفقة بلا توقف، قد فقدت الأمل بأي احتمالات للحل في بلادها، فقررت قطع العلاقة نهائياً بأوطانها الأصلية، وإلقاء نفسها في المجهول، الذي تحول الموت غرقاً في لجج البحار، أولى عتباته العملية.
2- إنه رغم كل ما تظهره القوى السياسية اليمينية والعنصرية في الدول المتقدمة، المستقبلة لجحافل اللاجئين، فإن حكومات هذه الدول المتقدمة، قد أجمعت بلا استثناء، وبلا تردد على أن تلمح بين نتائج هذه الحالة الإنسانية، فوائد اقتصادية لها، على المدى البعيد، تمنحها حلاً سحرياً لظاهرة نقص اليد العاملة الرخيصة فيها، وانخفاض نسب زيادة أعداد السكان، ما ينتج صعوبات اقتصادية، قد لا تجد الحل لها إلّا في موجات اللاجئين المتدفقة عليها.
لكن حداثة هذه الظاهرة، في السنوات الأخيرة، يجب ألّا تحجب عن ذاكرتنا، وعن أبصارنا، مصيبة مماثلة ارتكبتها دول العالم المتقدم، عند منتصف القرن العشرين المنصرم هي مأساة فلسطين، التي أسست لها الدول المتقدمة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، منذ مطلع القرن، بالتخطيط لاختراع وطن لليهود الموزعين على مختلف القوميات، في شتى بقاع الأرض، ولو أدى ذلك، كما هو منطقي، وكما حدث فعلاً، إلى عملية تطهير عرقي بين صفوف السكان الأصليين لفلسطين، حتى طردهم بجحافل من اللاجئين، في الدول العربية المجاورة لفلسطين.
لقد حصل في آخر النصف الأول من القرن العشرين مشهد انحطاط أخلاقي، لا أدري ولا أفهم، كيف تنجح البشرية، خاصة في الدول المتقدمة، من الاستمرار في التصرف كأن شيئاً لم يحدث حتى الآن.
ففي الوقت الذي شهد فيه العالم بأسره نتائج جريمة اختراع وطن لليهود في فلسطين، التي أدت إلى طرد شعب فلسطين من بلده، وتحويله إلى جحافل من اللاجئين المشردين، المحرومين من وطنهم الذي فقدوه عنوة، ورغم إرادتهم، في هذه السنة نفسها، 1948، احتفلت منظمة الأمم المتحدة الوليدة من رحم الانتصار في الحرب العالمية الثانية، بإعلان الوثيقة الدولية لحقوق الإنسان التي تضمن الحقوق الإنسانية لأي فرد يعيش على كوكب الأرض.
فمن غير المفهوم، كيف يحتفل العالم في السنة نفسها بوثيقة حقوق الإنسان، ويغمض عينيه، وما زال يغمضها حتى يومنا هذا بعد ثلاثة أرباع القرن، على حرمان شعب كامل من كل حقوقه، وأولها حقه في العيش بسلام وحرية على أرض وطنه.
إنه التطبيق العملي الكامل لبيتين من الشعر العربي، يقولان:

قتل امرئٍ في غابة، جريمةٌ لا تُغتفر

وقتل شعبٍ كاملٍ، مسألةٌ فيها نظر

الانحطاط الأخلاقي نفسه، والسقوط الحضاري نفسه، ما زالت الدول المتقدمة والمجتمعات البشرية المتقدمة ترتكبها في مطلع القرن الحادي والعشرين.
تقوم الدول المتقدمة باختلاق أزمات سياسية في عدد من البلدان العربية، مثل العراق وسوريا وليبيا، إضافة إلى فلسطين، لإرضاء شهواتها ومصالحها في تفتيت هذه البلدان، واستحلاب خيراتها، فإذا أدى ذلك إلى زحف جحافل اللاجئين إلى أراضي الدول المتقدمة نفسها، فتناست هذه الدول مسؤولياتها عن مصيبة البلدان التي تحول أهلها إلى لاجئين، وراحوا يحاولون مخادعة ضميرهم، وقيمهم الأخلاقية والحضارية، ليس بكف اليد عن إشعال الفتن في دول الجنوب، بل بتخصيص مليارات الدولارات، تنفق لمنع تدفق جحافل اللاجئين بنسبة تفوق ما يتطلبه حل مشكلاتها الاقتصادية. إنها مأساة الحضارة والأخلاق والقيم، وصلت في العالم المتقدم الحديث إلى ذروتها.

نقلاً عن “الخليج”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً