بالاذن في المشهد الروسي
علي نون
تشتغل القيادة الروسية في السياسة مثلما تشتغل في المعارك العسكرية، ومثلما تشتغل في الأساس، على تدعيم سيطرتها وسلطتها على بلادها: تخلط العنف بتتماته البيانية المشتملة على ضراوة في الكذب والتهويل، كما على أشياء مستعارة من عدّة اللصوص وأهل الاحتيال وفي مقدّمها البلف!
آلتها الحربية صمّاء.. تعتمد تكتيكاً مكثفاً من النار وتصبّه باتجاه أهدافها من دون ضوابط ولواجم أخلاقية أو انسانية. وبأداء يقارب أداء الضواري في غابة مقفلة. وتنطلق من خلفية موروثة من العهد البائد ومن زمن الحقبة الستالينية تحديداً، ومن النص التثقيفي القائل بأن لا قيمة للفرد أمام الجماعة! بما يعني في المحصلة بأن لا قيمة للفرد ولا للجماعة! وبما يفسّر في الاجمال، كيف فاق عدد ضحايا ستالين من الروس، عدد ضحاياهم في «الحرب العظمى» ضد النازي الألماني.. وكيف انهارت في كل حال، «دولة العمال والفلاحين» تحت وطأة خوائها الروحي قبل انكسارها تحت وطأة الافلاس المادي!
وبهذا المعنى وحده، يصير سهلاً فهم كيف أن محاولة بوتين لإحياء «أمجاد بلاده»، تعيد الاعتبار لسيرة ستالين. وتستعير بعض تكتيكاته في التعامل مع المشاكل التي واجهتها وتواجهها روسيا اليوم .. مع الشيشان في أواخر تسعينيات القرن الماضي. ومع محو غروزني عن وجه الأرض تقريباً. ومع المعارضين في الداخل والمنافي. ومع السوريين في الشمال المنكوب. ومع الضجة الدولية المتصاعدة راهناً إزاء نكبة سوريا إجمالاً ونكبة النزوح خصوصاً!
هناك هوّة في القيم والمفاهيم والمعاني، تفصل هذه القيادة وملحقاتها الأسدية، عن سائر البشر في مطالع الألفية الثالثة! وهناك قصور في «الترجمة» يوازي ويتماهى مع تلك الهوّة. بحيث أن الحديث عن «حل سياسي» تفهمه موسكو، إكمالاً لتدمير ما بقي من عمران سوري. وتهشيلاً لمن لم يمت بعد من السوريين… تأخذ مداها وتلعب على هواها، لأن أحداً في الجهة المقابلة، خارج حلف الضمير السعودي التركي القطري، لم يقف في وجهها بالشكل الكافي لإعادتها الى مسار الأنسنة والأخلاق، قبل السياسة وخبرية الحل التسووي ذاك!
وبهذا المعنى أيضاً، يُفهم هذا المسار التوتيري في خطوطه العريضة. والذي يوصل الى اعتماد توليفة العنف الضاري مع البلف مع التهويل في أقسى حالاته. كأن يقول رئيس وزراء بوتين، ديمتري ميدفيديف، ان التدخل البري في سوريا قد يوصل الى «حرب عالمية جديدة»! وأن يسبقه في ما هو أكثر من ذلك، صانعه وزعيمه بوتين نفسه من خلال «اشارته» في أحد تصريحاته التي تلت بدء «عاصفة السوخوي» الى أسلحة الدمار الشامل و»القنابل النووية التكتيكية»! وأن يعتبر أن عمليات القصف التي يشنها طيرانه الحربي، هي «أفضل تمرين ممكن» لقواته.. وان يفترض في الأساس، ان «مصالح» بلاده في سوريا (والتي لم ينكرها أحد بالمناسبة!) تستدعي كل هذا القتل وكل تلك الممارسات المخزية المهينة للذات البشرية في أصلها وفصلها!
والمفارقة، ان هذه القيادة التي تلوّح بالفظاعات على مستوى أكبر وأشمل من رقعة الجغرافيا السورية، هي ذاتها التي طلبت (وأخذت!) وقف امداد المعارضين بصواريخ «تاو»! ومنع حصولهم على أي سلاح مضاد للطيران! وهي ذاتها، التي تعرف مثلما يعرف معظم المعنيين، بأنها ما كانت لتأتي بطائرة واحدة الى سوريا لولا موافقة إدارة مستر أوباما على ذلك! وما كان لها أن تستعرض بهذه الطريقة الوحشية لولا انكفاء سائر الأطراف الى زاوية البحث عن «حل سياسي»!
الواضح راهناً، ان المرحلة الآتية ستختلف عن تلك التي بدأت في أواخر ايلول الماضي.. وان هناك من قرر واعياً تمام الوعي، التصدي المباشر لمحاولة اعادة الوضع السوري الى نقطة الصفر وسلب سوريا من أهلها! وأياً تكن التداعيات والأثمان والتهويلات والتشبيحات!
نقلا عن “المستقبل”