اراء و أفكـار

متى يصرخ الشرق في وجه الغرب؟

د. نسيم الخوري
يتمّ تنظيف الأذهان الفكرية العربية، بين مشرق العرب عبر بوابات العراق وسوريا المطلة على العرب، ومغربهم عبر بوابة ليبيا المطلّة على روما وبلدان أوروبا، من ركام العروبة المتلاشية أو القومية العربية المستوردة التي رافقت الثورة الصناعية في الغرب ورافقت استيراد الصناعة العربيّة من الغرب، لتستبدل كلّها بتشويهات أو بتشظيات إسلامية وتنوّعات إرهابية، تدمر قيم الدين، لتتجرأ على معظم بلدان العالم وذلك إلى أمد طويل.
هل نقول إن داعش توضب إرهابها وتقفز فوق مآسي المشرق نحو المغرب؟ نعم. على الأرجح بحيث إن تسونامي الإرهاب العالمي قد يحول معظم الأوطان أسواقاً لبيع الأسلحة الفتّاكة، ومعها تسقط ألوف الضحايا وتتلاشى التعقيدات التقليدية الفكرية بين العرب والمسلمين. وقد تحفز التشوهات الحاصلة والانقسامات والكوارث المتفاقمة المتنقلة لا بهدف التنظيف العلني للتاريخ «الثوري» الربيعي في مكانٍ ما من الأدمغة نحو يقظات قومية/إسلامية ملحة ومنتظرة وضرورية يعاد تشكيلها في مصر وتونس ولبنان والمغرب وبلدان الخليج العربي، مثلاً، بالاستناد إلى التجربة الناصرية وتجربة الملك فيصل وتجارب فلسطين التي لم تتوقف، بالاستناد إلى أمرين أولهما انكشاف معظم الأغطية الخبيثة الغربية عما حصل وسيحصل في بلادنا، وثانيهما انكشاف هول المخطّطات المنسوجة لتدمير المكان والعقل العربي في الزمن الذي تبدو فيه الثورة الإسلامية تفتح نوافذها المتصالحة مع الغرب في أعقاب التفاهمات النووية التي يفتتن بها الغرب وإيران على السواء. هل ننقز من الفكر التجديدي والدعوات الجريئة التي تتراكم بهدف الإصلاح الديني؟ الجواب: لا حتماً حتى ولو غالى بعض المفكرين حيال التكفير في الدعوة إلى الخروج من لحاء تشويه الدين إلى درجة قد تقارب الكفر في بعض النصوص.
هي مرحلة انتقالية قاسية على العرب، وعودة شاقة محفوفة بالتوق النرجسي إلى زمن القوميات التقليدية بقدر ما هي حنين يتعاظم ويشتد أو يضعف ويتراخى على إيقاعات القتل المتنقّل والعبث الحضاري الفظيع الذي يصعب حصر هوياته. ويفرز هذا المناخ ضرورة التذكير بالمقولات المعروفة التي حفل بها القرن الماضي والتي تحصر علاقات العرب والمسلمين في أربع وحدات جغرافية وفي توجهين فكريين:
I- النمط التمايزي النظري: أوصل هذا النمط أحياناً العروبة والإسلام إلى درجة الانفصال التام. كبّل النمط إشكاليات الموضوع بجدليات ونظريات لم تفض إلى نتائج حاسمة. وبقي التمايز صارخاً في القول كما في النصوص بالرغم من الحروب التي أورثها هذا التمايز، وهي لم تخلّص الفكر من إرث هذه الجدلية المتراكمة.
يمكننا، بهذا المعنى، أن نفهم ونهضم ونشجع دعوات الفكر النقدي العربي اليوم الذي يطالب مثلاً، ب«إعادة تأسيس العقل النقدي قبل تجديد الفكر الديني وربطه بثورة المعلومات التي هي بحاجة إلى الفكر النقدي مركزين على المقاصد العليا في الإسلام…والقيام باستلحاق نهضة معرفية ستأخذ منا وقتاً طويلاً، تركّز على مناهج التعليم العتيقة البالية سواء في الحواضر الكثيرة التي تخصصت في الخروج عن الفكر الديني عن طريق الوعظ السريع الزاخر بقشور العلم والإقناع والتي تفتقر لفكرٍ ديني مستنير. فهل يجوز أن ترتفع فوق المنابر أجيال من الواعظين ثم يلتقيهم المؤمنون بعد الظهر أو في المساء يسوقون عربات في أزقة العرب أو يبيعون في زوايا الساحات ما يضعونه فوق عرباتهم الخشبية إلى ما هنالك من المهن الشعبية المتواضعة التي تفرض نفسها على طبقات وضيعة من رجال الدين بدافع الحاجة والعوز؟
الغريب أنّ ما يراه الغرب بقيمه وأفكاره سيرورة تنوير وانخراط في فعل التغيير، ما زال وقعه على الكثيرين في بلادنا بوصفه عدواناً دهرياً لا ينقطع، لكن، لا بد للثورات، مهما استمرّت كاسحة، من أن تتعزز وتترسخ، وصولاً، في آخر المطاف، إلى التحول من لحظة نشوة قوة «دينية» مفرطة إلى زمن تعقل وانفتاح قابل للاستمرار. فالولايات المتحدة، كما كتب هنري كيسنجر، على سبيل المثال، وخصوصاً بعد انسحابها من أفغانستان» كفّت عن التعامل مع التوازن الداخلي المعاصر في الشرق الأوسط بوصفه مشكلة عسكرية، غير أنّها لم تلبث أن وجدت نفسها منصاعة أومضطرّة لمضاعفة نشاطها السياسي والدبلوماسي في نظرتها إلى الشرق الأوسط من أجل إقامة نوع من النظام الإقليمي منعاً لاستشراء الفراغات، التي، من شأنها، بالضرورة، أن تجرّ جميع البلدان هناك إلى نوعٍ من المجابهة الإقليمية التي قد تنذر في لحظة من الغضب إلى رسم ملامح حرب عالمية معلنة يصعب ضبطها.
صحيح أنّ الدنيا قد تغيرت كثيراً بعد ألفية ونصف تقريباً من عمر الرسالة، ومازالت الفصائل المتنوعة تلوذ بالقتال والنصوص والخطب المرتجلة والاجتهادات الكثيرة، وتفتح بلادنا العربية ساحات للعالم كله شرقاً وغرباً، ومساحات تذابح وتهديم، ومصالح تتدافع فوقها الدول والشركات بهدف البيع للتحديث لا بهدف الحداثة والفرق بينهما كما الفرق بين القشرة وجذع الشجرة. ويتمادى الجهاديون المشكوك بقداستهم كما اللعب في تمزيق المجتمعات وتفكيك الدول بهدف السيطرة على البقع الغنية بالبترول والغاز وهي مسائل لا تبني سوى دول عابرة مؤقتة. هم يبتعدون عن الفكرة التوحيدية التي تعود إلى الكنعانيين، وقبل ذلك بعصور، أنّ من يتبع الله يتبع الإنسان.
صحيح أيضاً أنه قد انتشر الإسلام بقوة هائلة عبر آسيا وإفريقيا وأوروبا منذ القرن السابع، متغذياً بحماسة دينية هائلة ورؤى إمبراطورية حملت صيغة عظيمة للنظام الكوني. لكن الصحيح أنّ الظروف والدول والأزمنة قد تغيرت كثيراً بعد تاريخ طويل من تفاعلات إيقاظ العداوات بين المذاهب والمجتمعات الإسلامية وبينها وبين المجتمعات غير المسلمة وخصوصاً عالم الغرب المكشوف، لكنها تعود لتقدّم نفسها مجدداً أمام «دار الحرب» كمسمى للأقاليم المتنوعة التي كانت مأهولة بالمسلمين وبغير المسلمين، تطلّعاً مستحيلاً إلى أن يصبح العالم كلّه نظاماً أحادياً يتناغم مع الرسالة.
تبقى معضلة الإندماج بين الشعوب في الشرق الأوسط، بشكلٍ عام، كما في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، تستقطب وتتطلّب جهوداً جبّارة لم تنجح لكونها تلامس بلاداً لها حضارات متمايزة كثيراً عند التجديد أو التحديث في التطبيق. ولهذا بقي الانتباه الغربي والأمريكي منصباً أحمر العين في استراتيجياته المتنوعة على تلك المناطق بشكل حثيث. فهل تتمكن بلاد العرب والمسلمين في الشرق الأوسط من الدعوة إلى ورشة «حضارية» تقفز فوق الحفر المستورد الغربي في خلافات المذاهب والفرق، فتتجاوز الحروب والخرائب وكوارثها الإنسانيّة، وتقول كلمة جديدة بلغات العالم تعيد انتباهه إلى بواطن الكنوز الكبرى في هذا الشرق؟
سؤال كبير مختصره: متى يخرج الشرق العربي من كوارثه المتناسلة صارخاً في وجه العالم: لقد أنهكتمونا.

نقلا عن “الخليج”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً