اراء و أفكـار

سياسات الاستثمار في الإرهاب

احمد جابر

صارت المنطقة العربية مسرحاً للاستثمار في الإرهاب، ومن دون اتفاق على تعريف الأعمال الإرهابية صار كل عمل عنفي احتجاجي ممارسةً إرهابية مكتملة الشروط والمواصفات.
لا ينجو خطاب من الخطب من قرينة الاستثمار في موسم البيع والشراء الإرهابي، يُقْدم على ذلك الخطاب الديني، فيجعل نسخته هي النسخة الناجية في الفهم والتأويل، ويتبعه الخطاب السياسي المحلي فيعلي من شأن مبادرته الدفاعية والهجومية ضد الأساليب التي تتعارض و «القيم» التي يتمسك بها هذا النظام أو ذاك، ويحذو حذو الخطابين السالفين كلام استثماري خارجي، يأتي من جهة الإقليم المجاور للمنطقة العربية، ومن جهة الديار البعيدة منها.
لا يحتاج تقليب دفاتر الخطب المختلفة إلى جهد كبير لتبيان تناقضاتها البنائية، أو لتظهير الافتقار إلى تماسك منطق عباراتها التكوينية، كذلك لا يغيب عن التدقيق أمر الإشارة إلى السياسات الحقيقية التي يعتنق أصحابها الموقف وضده في الوقت ذاته. التناقضات تطرح على بساط البحث، أو هي تعيد إلى افتتاح النقاش، مسألة تطابق كلمة الإرهاب مع واقع الحال العربي، فكيف توصف تحركات تشكيلات قتالية كبرى بما كانت توصف به أعمال خلايا معزولة؟ وأين تلتقي العلانية العملانية للمواجهات التي تقودها فصائل المعارضة السورية والعراقية، مع سرية الحركة المحدودة التي كانت تنفذها مجموعة من «التوباماروس» في بوليفيا، أو مجموعة من «الألوية الحمراء» في إيطاليا؟ وما وجه الشبه بين مخابئ مقاتلي ذلك الزمان، وما بين مسارح العمليات الكبرى التي يدير فوقها المقاتلون الحاليون، أمور كتل سكانية حاشدة، ويتدبرون شؤونها؟
ما يجمع مقاتلي المجموعات المعزولة الضئيلة العدد، والمقاتلين المحتشدين ضمن تشكيلات عسكرية نظامية، هو مبدأ الغاية التي تبرر الوسيلة، هذه التي هي العنف لدى الطرفين، والتي تطاول بنارها من ليسوا في مواقع المواجهة القتالية، أي تستهدف من ضمن ما تستهدف المواطنين العاديين، بل إن الجماعات القتالية تلتقي أحياناً على وسيلة استهداف هؤلاء المواطنين بصفتهم المواطنية فقط، تحقيقاً لمآرب مختلفة.
مسألة التعرض للأبرياء والعزَّل من الناس بغية الوصول إلى تنفيذ سياسات خاصة، تشكّل بنداً متداولاً من بنود تعريف الإرهاب، لكن إذا ما جرى عرض سياسات الدول التي تدخلت في المنطقة العربية، سيتضح أن أعمالها تقع تحت طائلة هذا البند التعريفي، الذي لا يجيز فرض الأهداف بالقوة، من جانب الأفراد أو الشعوب الأخرى.
إذاً، تحت سقف «قانون التعريف»، لا يُعفى من المساءلة سلوك الولايات المتحدة الأميركية الذي أدى إلى تدمير العراق، وحمل المنطقة العربية، بعد انهيار الحكم المركزي في بغداد، إلى ما هي عليه الآن من أفعال وردود أفعال تقع كلها تحت بند المساءلة الإرهابية. لن يكون مجدياً نقل مسألة التعريف والتناقض السلوكي معه، إلى ميدان الأخلاق، فما هو معلوم ألا أخلاق في المصالح السياسية، لكن استحضار مفردات مثل الصدق والشفافية والنزاهة، يجري مجرى الرد على المزاعم التي تأتي من جهة مطلقي هذه المفردات، فهؤلاء حريّ بهم، لو كان الأمر أمر أخلاق، أن يبادروا أولاً إلى الاعتراف بمسؤوليتهم الكبرى عن الأوضاع العربية الناشئة، وأن يكفوا بالتالي عن مطالبة «أهل البيت العربي» بإصلاح أحوالهم، قبل أن يكفوا أيديهم عن استمرار التلاعب بشؤون هذا البيت، وعن الإحجام عن مد يد المساعدة في عملية تدارك الأخطار التي فجَّرها تدخلهم الطارئ، ومن ثم هروبهم من حلقة النار التي أشعلوها باستثمارهم التعريفي للإرهاب، وبتعدادهم أخطاره على سلام العالم واستقراره!
الإشارة إلى الخارج لا تعفي الداخل، على العكس من ذلك لا مفر من التركيز على المعضلات الداخلية، إذ في الداخلي يقع أساس كل الأعطاب. لقد بات واضحاً أن المعالجة المجتزأة لا تشكل حلاً، وأن الصراع السياسي الذي اندلع في أكثر من بلد عربي ليس صراعاً على الإسلام، بل هو صراع بين المسلمين على المصالح المادية والسياسية. وفي هذا المجال، لا تستر الراية الإسلامية سيئات الأنظمة، ولا تحجب تشوّهات المجموعات المسلمة، ولا تفيد في تنحية الأهداف المذهبية التي عاد أصحابها إلى دهاليز التاريخ.
السؤال ليس أي إسلام هو الأصح، بل السؤال هو ما السياسات الأنجع، وما سبل الخروج من مناطق التوتر والانقسام والشرذمة الداخلية، إلى رحاب العملية الاجتماعية المتكاملة، التي تعيد الاعتبار إلى منطق المواطنة والفرد والعقلانية والحرية والعدالة والمساواة، أي إلى كل ما يشكل عناصر الكرامة الوطنية العامة ومقومات الكرامة الفردية الخاصة.
ماذا يفعل الذين أطلقوا صفارة الخراب العنفي منذ 2003 في المنطقة العربية؟ يساومون على أساليب تدخلهم، ويُسدون النصح «المجتمعي» والعسكري، ويراقبون تمدد بقعة الزيت القتالية، فيكتفون بالتصدي لها من الجو بصواريخ قليلة الجدوى على الأرض، مثلما يوجهون إليها «صاروخ» التهمة الإرهابية الذي لا يلامس أرض فعل حقيقي ذي أثر ملموس. ينطبق ذلك على الطرف الأميركي في سياسته «عدم الاستغراق في السياسة» في بلادنا، بل إدارة أزماتها من بعد، وينطبق الأمر على الطرف الروسي الذي صار دولة كبرى، ويحاول أن يعود دولة عظمى، هو الذي أطلق أيضاً إشارة التسابق إلى الخراب، عندما دخل أفغانستان في الثمانينات، حاملاً مآثر «الديموقراطية السوفياتية»!. في ظل جناحي الأزمة العنفية التي تضرب بلاد العرب، يلعب الطرفان التركي والإيراني، المسلمان!، وخلفهما يستريح الطرف الإسرائيلي، وفي مواجهة هؤلاء يتخبط العرب في بـحثهم عن سبل النجاة.
هو عنف مشترك دولي وإقليمي ومحلي، والنجاة من آثاره مشتركة. ليكن الكل مسؤولاً، وبلا كذب لمرة واحدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً