اراء و أفكـار

هل نجح مؤتمر باريس في إنقاذ المناخ؟

د. غسان العزي
المؤتمر العالمي للمناخ الذي انعقد في بورجيه/باريس بين ١-١٢ الشهر الجاري برعاية الأمم المتحدة، كان الموعد الأخير في تاريخ مفاوضات دولية حول التغير المناخي بدأت منذ أكثر من ثلاثين عاماً تخللتها مؤتمرات واجتماعات وأبحاث علمية. ثلاثة عقود جهد خلالها علماء وسياسيون ومواطنون من المجتمعات المدنية من أجل فهم تطور المناخ وتحديد مسؤولية الإنسان في التغيرات المناخية وتأثيراتها في المجتمعات والاتفاق على الوسائل الآيلة إلى التكيف معها ومواجهة مضارها والحد منها في المستقبل خدمة للأجيال المقبلة.

خلال هذه العقود الطويلة توصلت الدول إلى اتفاقات وبروتوكولات وما شابه، لكنها لم تلتزم بها كفاية فتمت التضحية بالبيئة على قربان التنافس الرأسمالي المحتدم في عالم أصيب بالجنون. لكن مع تطور وسائل الإعلام والتواصل وصلت مشاهد الكوارث الطبيعية والتسوناميات المرعبة التي ضربت بلداناً عدة فقتلت عشرات الآلاف، في آسيا الجنوبية واليابان وصولاً إلى الولايات المتحدة نفسها، فساهمت بنشر وعي جماعي حيال اضطرابات مناخية صار يشعر بثقلها كل سكان المعمورة. وهكذا كان على المجتمعات المدنية ورجال العلم والسياسيين أن يتحركوا فيقرروا أن مؤتمر باريس لن يكون كسابقيه.
بعد اثني عشر يوماً من المفاوضات المكثفة، التي هي امتداد لأربع سنوات من المناقشات والمباحثات المدعومة بأبحاث علمية وما شابه، تمكنت الدول المئة وخمس وتسعون (إضافة إلى الاتحاد الأوروبي) الممثلة في المؤتمر، أي كل دول العالم المستقلة، من التوصل إلى نص يعتبر «تاريخياً» وغير مسبوق رغم مكامن الخلل فيه.

إذاً، خرجت القمة الحادية والعشرون للمناخ برعاية الأمم المتحدة، في ١٢ ديسمبر/كانون الأول الماضي، باتفاق ليس مثالياً بالتأكيد ولكنه، بإجماع العلماء والناشطين والسياسيين الذين شاركوا في صياغته، الأفضل الممكن من أجل مكافحة ارتفاع حرارة الأرض الذي يسير بوتيرة تهدد البشرية بكوارث مناخية وبيئية مدمرة.

وبموجبه تلتزم المجموعة الدولية بالحد من ارتفاع متوسط درجة حرارة الأرض إلى أقل من درجتين، مع استمرار الجهود من أجل التوصل إلى درجة واحدة ونصف الدرجة. وهدف الدرجتين بالمقارنة مع الحقبة ما قبل الصناعية كان تم تحديده في قمة كوبنهاغن العام ٢٠٠٩، لكن الفشل الذريع كان من نصيب هذه القمة، وهو فشل خيم بثقله على مباحات بورجيه.

وقد تم التأكيد على «المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة» الذي ابتكره الاتفاق المناخي الموقع في العام ١٩٩٢ في قمة الأرض في ريو دي جنيرو الذي يعترف بأن الدول الصناعية الكبرى هي المصدر الأكبر للانبعاثات الكربونية وغازات الدفيئة المسببة للاحترار المناخي،لكن على الدول النامية مسؤولية هي الأخرى ينبغي أن تتحملها بمساعدة الدول الغنية التي سوف تقدم لها مساعدات تكنولوجية مالية بقيمة مئة مليار دولار لهذا الغرض. وقد تم وضع بند المساعدات هذه في «قرارات القمة» وليس في «اتفاق باريس» الذي يقرر إجراء مراجعات دورية،كل خمس سنوات، لما تم تنفيذه في إطار خفض انبعاثات غاز الدفيئة المسؤول عن الاحترار، وبذلك فإن دورة المراجعة الأولى ستكون في العام ٢٠٢٠.

في الحقيقة يتيح اتفاق باريس إمكانية، وليس ضمانة، الخروج من حالة عدم المسؤولية حيال المناخ التي قادت إلى زيادة حرارة الأرض بمعدل وسطي قدره ثلاث درجات بالمقارنة مع العصر ما قبل الصناعي. وهناك ثلاث نقاط قوة في الاتفاق المذكور.

الأولى، أنه يحدد هدفاً واضحاً للمدى البعيد (درجتان بل درجة ونصف الدرجة) وهذا يعني الشروع منذ اللحظة بمحاولة الاستغناء عن الطاقة الأحفورية. النقطة الثانية هي حلقات المراجعة للالتزامات الوطنية التي باتت قائمة على العلم، ما يعني ستكون هناك نقاشات عقلانية حول سياسات المناخية التي ينبغي تطبيقها، وليس نقاشات دبلوماسية فقط. إن سيطرة العلم على كل النقاشات هو خبر سار للبيئة والمناخ.

المكمن الثالث لقوة الاتفاق، أن العالم يخرج به من حقبة كوبنهاغن (٢٠٠٩) كونه يضع نظاماً جديداً للحوكمة في مجال المناخ يفتح مجالاً للمجتمع المدني والمواطنين والعلماء والشركات للعب دور أساسي إلى جانب الدول. والاتفاق لا يجبر أحداً على فعل شيء لكنه يفتح أمام كل فاعلي المجتمع إمكانية ممارسة الضغوط على الدول في كل دورة من دورات المراجعة، وهذا ما سيسمح بقيام تفاعل ما بين الدول وبقية عناصر المجتمع.
بالطبع هناك ثغرات في الاتفاق أهمها أنه غير ملزم قانونياً، ولا يتضمن وسائل إجبار، أو إكراه، أو معاقبة. لكن دول العالم جميعها انخرطت فيه وقد حضر جلسة افتتاح قمة بورجيه كل زعماء دول العالم تقريباً والتي بقيت حاضرة بممثلين على مستوى عال من وزراء وسياسيين وممثلي منظمات وجمعيات وشركات وغيرها. أما الثغرة المهمة الأخرى التي تشي بأن الدول لم تقطع بعد مع اللوبيات الملوثة، فهو أن الاتفاق لا يشير إلى انبعاثات الطائرات ووسائل النقل البحرية التي تمثل نحو العشرة في المئة من الانبعاثات العالمية لغازات الدفيئة. وبذلك فالاتفاق لا يقدم الضمانة بأننا سوف نصل إلى الدرجة والنصف الحرارية بقدر ما يعكس حالة النظام الدولي «الوستفالية» (من معاهدة وستفاليا ١٦٤٨) حيث لا تجد الدول السيدة المستقلة نفسها مرغمة على القيام بما لا ترغب في القيام به. وبذلك فإن التهديد الذي يحدق بالبيئة والمناخ هو تهديد بنيوي متأصل في طبيعة النظام الدولي الرأسمالي نفسه،والأمل يقبع فقط في شعور هذا النظام بأن التغيرات المناخية تشكل تهديداً فعلياً لوجوده، وبأن عليه التحرك لحماية نفسه منها. هذه كانت فلسفة قمة باريس والاتفاق المنبثق عنها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً