اراء و أفكـار

العراق المحتل: أميركا تحارب بـ «المتنازع عليه»

طارق الدليمي

 

بالعودة سنوات عدة إلى الوراء، نعثر على كلمات دقيقة سطّرها الاكاديمي الاميركي في «اللغة والانسانيات» في جامعة هارفارد، هومي بهابها، مفادها أن الاحتلال الاميركي يجهد نفسه من خلال مناوراته السياسية وضغوطه العسكرية لتكوين سلطات محلية «ديموغرافية» في كل مكان من العراق، بما فيها العاصمة بغداد، من أجل أن يمنع ولادة حكومة الناس المطلوبة. وهو يربط بين هذا الهدف الاستعماري الخبيث وبين المصطلحات التي يعممها الاحتلال من خلال برامجه الانثروبولوجية، ويحلل بنباهةٍ الأساس التاريخي لمفردة الإرهاب terrorism التي يرددها الاحتلال ويزرعها، وهي المقاومة ضده، مع الكلمة الأساس territory ـ الأرض، والتي تعني بالضبط «المكان الذي يحمي الناس من الخوف». من هنا، فإن النزعة الانثروبولوجية للاحتلال كانت منذ البداية تجمع بين ملفين في إطار سياسي عسكري موحد. الأول هو الموقع الجيو ـ سياسي للعراق في الإقليم والثاني هو الموضع السكاني البيو ـ سياسي داخل البلاد. لذلك كان الاقلاع نحو الاستثمار الأقصى «للمتنازع عليه» تحت سقف الاحتلال. إن «المتنازع عليه» في المسطرة اليومية للاحتلال تعني كل تفاصيل الحياة البشرية والإنسانية للسكان، وهي في الجوهر تتصل بالسلطة السياسية والموارد الطبيعية وعلاقة كل ذلك «بالحل النهائي» للعراق، المرتبط بالاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة. لكن الاحتلال أدرك منذ البداية بأن «المتنازع عليه» من الضروري أن يتجزأ إلى عناوين فرعية تصبح أولاً صواعق لتفجير الصراع، وثانياً عناصر فاعلة في قلب الصراع، وثالثاً وقوداً يومياً لا ينضب لديمومة هذا الصراع.
الفصل بين الهويات
يؤكد سين كين، الباحث في «المعهد الأميركي للسلام»، في دراسته لعام 2011 حول «المناطق المتنازع عليها» في العراق، بأن كل الأطراف، بما فيها حكومة بغداد، تجلس على حدود معرفة ضيقة للمسؤوليات، محدودة في التفكير، متورمة في المصالح، وتحتوي على كميات كبيرة من الارث المسموم بالكراهية وعدم الثقة. ويقول إنه بالنسبة للاحتلال، فإن استقرار العراق لا يضيره «الارهاب» بقدر الصراع على المناطق المتنازع عليها، والتي تؤشر إلى عقابيل جسيمة في تكوين سلطاتها السياسية، لناحية الصراع الذي ينشب حول مواردها النفطية الموجودة أو المتوقعة. من هنا، فلهذه المكونات مخيلات متناقضة، ومن الصعب من خلال عقولها البلاستيكية المغلقة أن تجتمع معاً في إطار وطني مادي واحد ومتماسك.
«المشهد المتغير» في التحول والثبات
ولعلّه من الضروري تسليط الضوء على العلاقة التكتونية بين البرنامج الانثروبولوجي للاحتلال في العراق والمناهج المستخدمة في اجراء تحولات عميقة، بعد سلسلة عمليات من الهدم المتواصل في العراق أثناء الحصار، تحضيراً لاحتلاله. من ذلك مثلاً القول إن القوة الضخمة (ومنها العناية الالهية أو الاحتلال الاميركي!)، قد اضطرت للتدخل المباغت ومن خلال حدث غير عادي من أجل حماية أو إنقاذ أوضاع لا أمل فيها. هكذا نظرت مجموعة «المحافظين الجدد» الى العراق قبل 2003، وهكذا تستمر مجـــموعة أوباما بالوظيفة نفسها. وعند هؤلاء جميعا، ومعــهم فرق النخب المتعاونة مع الاحتلال من كل الأطياف من دون اســتثناء، فإن التاريخ العراقي بدأ في العام 2003، ومن العبــــث إعادة الأمور الى الخلف، مادياً، وحتى على مستوى الذاكرة الجماعية.
إن النقطة المركزية في هذه النظرة تتركز على أن أحداث العراق ومكوناته قد أصابها تحوّل عميق منذ العام 2003. هكذا، لم تعد السلطة السياسية هي نفسها بالشكل والمضمون، وأصبحت الموارد الطبيعية خارج اطار هويتها الأرضية والاجتماعية، بل أصبح لها تاريخ معاصر يتساوق مع الاستحقاقات السياسية المتغيرة ومصالح القوى الأساس في العراق والإقليم وعلى الصعيد العالمي. أما طبيعة العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة، السلطة السياسية والأرض والموارد، فقد عدلها الاختلاف العميق، وباتت لها ملكية جديدة مرتبطة مباشرة بالملكية العقارية للامبريالية العالمية. ولم يعد الاطار التاريخي السابق، أي «الدولة الوطنية» والناس والثروة الأهلية، صالحا لأن يكون المؤشر والوحيد للبقاء والتطور. وفي هذا الإطار، يفيد اســـتذكار القول الذي أطلقه أحد أعمدة الاحتلال، أحمد الجلبي، وهو من النخب العميلة والمتميزة له، إذ أعطى صفة مشعة للعراق الجديد: «إنه محطة بنزين».
«المشهد المتغير» والكردية السياسية
بيد أن النتائج المباشرة للزلزال على الوضع العربي العراقي لم تكن معزولة عن المشهد المتغير للكردية السياسية في اطار العملية الاحتلالية فقط، انما خضعت لجملة من التفاعلات المعقدة داخل المكونات الطوائفية العربية التي خلقها الاحتلال، حتى قبل الغزو وأثناء الحصار الجائر. ففي غياب مشاعر خطر حقيقي على سلطة «التشيع السياسي» الحاكم، وفعالية «مقاومة التسنن السياسي»، ازدادت الصراعات داخل النسيج العربي ورموزه القيادية بالتتابع والتناوب، وتفاقمت حالة التآكل في صفوفها تحت ضغط المناورات الاحتلالية الأميركية، و «الكوندومينيوم» الاقليمي الإيراني والتركي، وتشبثها بالنموذج الكردي التابع. هنا تصرفت الكردية السياسية باستهتار فج وقلبت الصورة مستخدمة كل ثقافتها السياسية في العلاقات المتشابكة مع الفكر العنصري الاستعماري والصهيوني أيضا. وقد استثمرت حالة التمزق الشنيعة التي حلت بعرب العراق في السلطة والمعارضة، والوهن الذي أصاب «الدولة» في حالة الحصار، وعجزها بالتالي عن الدفاع عن الوطن وعن مؤسساتها أيضاً. ان الاستراتيجية العامة للكردية السياسية وأدواتها العسكرية كانت مفضوحة ومليئة بالثقوب، ما جعلها تفقد البوصلة في كل الاتجاهات، وهي لم تتمتع بالعلاقات إلا ضمن أفق وتوجهات وإملاءات الاحتلال الأميركي في العراق والإقليم والعالم. وها هي تعاني من الأمراض التي استفحلت في الجسد العربي نفسه، حيث وصل الصراع الداخلي الى الأوج الآن، ما يهدد وحدتها الهشة والقسرية على الصعد كافة. ولم تتمكن القوى العربية من استغلال هذه النتائج وتعمل باخلاص وتفان من أجل تثبيت سلطتها المركزية العربية الموحدة وكذلك تثبيت الحدود والتخوم، على الأقل ضمن الخط الأزرق الذي فرض في أثناء العدوان العام 1991، بينها وبين المطامع غير المحدودة للكردية السياسية. فقد اختنقت الطوائفية السياسية العربية بغازات مصالحها الضيقة، وفقدت بصيرتها التاريخية، ونسيت أن الكردية السياسية قد أُلحـــقت قسراً بالعراق المعاصر، وعليه فمن الضروري الاجابة على السؤال المركزي في الصراع: البقاء سوية في العراق ضمن الاتحاد الشامل أم الافتراق الكامل؟ وعلى الكردية السياسية أن تنزع أشواكها المتصورة بأيديها أو من قِبل الذي ورطها في حالتها المستمرة. إن الاحتلال وزلزاله من هذه الزاوية لم يغيرا المشهد، إنما جرى تغـــــيير المنظار التطبيقي في ركنين: الأول هو انتقال موقع الكردية السياسية من الدرجة الثانية، المهمة ولكن غير الحاسمة، إلى الدرجة الاولى والمقررة، والثاني هو عجز هذه الكـــردية السياسية عن إدارة الـــظروف الجديدة التي وضعت نفسها فيها وأقسرها الاحتلال عليها، ما جعلها تنهار في كل الميادين العسكرية والاقتصادية والسياسية، وبالأساس تحت ضغط نموذجها المشوه والمسبق الصنع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً