اراء و أفكـار

على هامش ملحمة اللجوء: الغرب والهجرة

ناصر الرباط
تفاقم مشكلة الهجرة السورية المأسوية إلى أوروبا الغربية في الشهر الماضي يحتم علينا الالتفات إلى التاريخ المفجع لهذه المشكلة المزمنة في العالم. فالهجرة ديدن التجمعات البشرية منذ نشأة فكرة التجمع والتمايز والانتماء قبل التاريخ المكتوب. وهي قد تأطّرت وأصبحت لها قوانين وقواعد بعد ظهور الدول الوطنية التي حافظت على حدودها وتركيبة شعوبها كجزء من كيانها، وهذا ما حصل أولاً في أوروبا قبل أن تصبح الدولة الوطنية أساساً ناظماً للعلاقات الدولية ولتعريف انتماء الأشخاص كأفراد وكجماعات.
اعتباراً من هذا المنعطف، أصبح للهجرة تعريفان: شرعية وغير شرعية. وهما طبعاً تعريفان وضعيان، وإن اكتسبا صلاحية قانونية بحكم اعتمادهما كمعيار للتحكم بحركة البشر، خاصة في الأوضاع الاستثنائية عندما يفوق حجم الهجرة قدرة الدول المرغوبة على استيعابها. هذا أساس ما نراه اليوم من تخبط دول الاتحاد الأوروبي في التعامل مع التغريبة السورية التي انفجرت في وجه العالم بعد كبت دام أربع سنوات من الهجرات الصغرى داخل الوطن السوري المُستباح، أو إلى دول الجوار السوري التي لم تعد تستطيع استيعاب المزيد فأغلقت حدوداً في وجه الفارين الجدد وفتحت أخرى في وجه اللاجئين القدامى للتخلص منهم برميهم على دول مجاورة. وطبعاً لم يتأخر المهاجرون البائسون عن سلك دروب هذه الهجرة الجديدة لأنها تُمنّيهم في النهاية بالوصول إلى أرض ميعاد مُشتهاة: أوروبا الغربية الغنية، بغض النظر عن المخاطر والتكلفة.
يتساوى اللاجئون السوريون في هذا مع لاجئين كثر من دول العالم الثالث الرازحة تحت نير الفقر والاستبداد والتخلف، والذين ما فتئوا يطرقون أبواب العالم الأول، الغربي حصراً، في القرن المنصرم، وإن كانوا يختلفون عنهم بحجم وعنف الاضطهاد القاتل الذي دفعهم للهجرة بجموع هائلة في وقت قصير. وتتساوى دول الغرب الغنية في تعاملها المنفتح أحياناً والمخزي أحياناً أخرى، ولكن الانتقائي والمنفعي على كل الأحوال، مع الطارقين أبوابها بغض النظر عن الظروف وردود الأفعال الشعبية واتجاهات القيادات السياسية في كل واقعة، وإن كان لسيادة القانون وتطور مفهوم حقوق الإنسان في هذه الدول نفسها دور في تخفيف معاناة المحظوظين بدخول أراضيها وفي تأهيل استقرارهم في موطنهم الجديد.
تقع مسؤولية هذه الهجرات الحديثة طبعاً بالدرجة الأولى على عاتق مسببيها في بلاد النشأة من حكام مستبدين وأنظمة قمعية لا ترحم وحروب أهلية عدمية وهياكل اقتصادية طاحنة وفقر مدقع مع أفق مسدود ومشكلات بيئية لا يوجد من يجابهها. وهنا أيضاً تقع الملامة الأولى وتكمن الحلول الناجعة. ولكن هذه المشكلات، التي ربما بدت محلية وغير ذات صلة ببعضها البعض للوهلة الأولى، مترابطة ومرتبطة بالنظام العولمي الذي تستفيد منه دول الغرب، التي وضعت أسسه أصلاً، فيما يعاني العالم المتخلف من آثاره المباشرة وغير المباشرة. ولا يقتصر الأمر على صعود النظام العولمي الاقتصادي النيو- ليبرالي في العقود القليلة الماضية، بل إن للأساس الاقتصادي للهجرة الحديثة تراثاً قديماً، مخزياً في معظمه، يجدر تمثله لفهم الواقع الحالي وللبحث عن حلول ناجعة له توازن بين ما هو أخلاقي وما هو ممكن.
فدول الغرب الصاعد في بداية الأزمنة الحديثة استخدمت الهجرة القسرية الكثيفة كأداة استعمارية فعالة: تخلصت من الزائد من شعوبها لتوطين مستعمراتها في العالم الجديد مثل أميركا وأستراليا وجنوب أفريقيا، وما زالت تفعل ذلك اليوم. وحركت مجموعات كبيرة من البشر قسراً من بلاد نشأتهم لخدمة مصالحها الاقتصادية في بلاد أخرى بعيدة. وهي في ذلك بذرت بذور مشكلات سكانية واقتصادية وتنموية هائلة ما زال العالم يعاني منها اليوم. فأحفاد ملايين الأفارقة السود الذين استُعبدوا وعُبّروا المحيط الأطلسي بالأصفاد ليعملوا في حقول القطن وقصب السكر في العالم الجديد ما زالوا يعانون تمييزاً عنصرياً وضعة اقتصادية وتعليمية واجتماعية في غالب بلاد هجرة أجدادهم الأبعدين. وكذلك كان حال أحفاد عمال السخرة الصينيين الذين جُلبوا للغرب الأميركي لمد خطوط سكة الحديد في القرن التاسع عشر حتى أمد قريب. والحال نفسه ينطبق على الهنود الذين نقلوا لمستعمرات بريطانيا الأفريقية لإدارة تجارتها.
لكن الغرب لم يكن فقط محرك الهجرات الواسعة حول العالم المُستعمَر والمستفيد الأكبر منها. بل كان هو أيضاً جاذب هجرات كثيفة، خاصة بعد نهضته الاقتصادية إثر الحرب العالمية الثانية التي استلزمت أيدي عاملة كثيرة. هكذا مثلاً انتعشت بعض الصناعات الثقيلة في ألمانيا وفرنسا وغيرها بجلب آلاف العمال من تركيا وشمال أفريقيا، الذين شكلوا نواة الغيتوات الإسلامية المعاصرة في المدن الأوروبية، والذين ظهر من أولادهم وأحفادهم من نبغ في بلاد نشأته وتماهى مع مجتمعاتها، ومن عاش على هامش تلك المجتمعات ولم يجد منفذاً إلى رفاهها أو تآلفاً مع قيمها فعاداها، كما نلحظ من ظاهرة انضمام شباب الجيل الثاني إلى صفوف «داعش» اليوم. وهكذا أيضاً ظهرت طبقة واسعة من الأثرياء والمهنيين ومثقفي العالم- ثالثيين الذين وجدوا في حريات الغرب موطناً بديلاً عن أوطان هربوا منها بثرواتهم، التي جمعوها حلالاً أم حراماً، أو لفظتهم لآرائهم السياسية، أو فشلت في تأمين البيئة المناسبة لتطورهم المهني. هؤلاء كلهم يشكلون إضافات إيجابية للمجتمعات الغربية بغض النظر عن درجة تماهيهم معها. فهم يثرونها مادياً وعلمياً ومعرفياً، وهم يضيفون إليها نكهات التعددية الثقافية المسالمة والمرغوبة.
تتداخل كل هذه المعطيات التاريخية في تقرير رد الفعل الأوروبي على التغريبة السورية الأخيرة. فالصد والإقفال والتضييق وحتى العنف الذي يعانيه آلاف السوريين المهاجرين خاصة في بلدان أوروبا الشرقية مرتكزة على مفاهيم الانتماء والمواطنة والتمييز التي طبعت فكرة الدولة- الوطن القائمة على أسس عرقية أو دينية والتي ما زالت الدول التي خرجت حديثاً من ربقة النفوذ السوفياتي تحتكم إليها، على حين أن دول النيو ليبرالية الغربية قد تجاوزتها. فهذه الدول، وألمانيا على رأسها، تناوش في تعاملها مع مشكلة اللاجئين بين التزاماتها القانونية والأخلاقية التي تمثل أعلى ما وصله الفكر القانوني من احترام لحقوق الإنسان بعد مآسي حربي القرن العشرين العالميتين، وبين تاريخها الطويل في تغليب مصالحها الاقتصادية على كل اعتبار آخر، والاستجابة لحاجات أسواق العمل المتزايدة فيها لروافد شبابية جديدة لم تعد مجتمعاتها المقيمة تنتجها بالقدر الكافي. أضف إلى ذلك تأثير الخوف من الإرهاب الطاغي اليوم، ورواسب التمييز العنصري والتراتبية العرقية اللذين طبعا تعامل الغرب مع الهجرة إليه في السابق، واللذين يبدو أنهما لا يزالان فاعلين في تقرير مصير الهاربين الجدد.
ويبقى شلال الهجرة من سورية الذبيحة هادراً بانتظار حل فاصل لحربها الأهلية يخلصها من مستبدّها الأسدي ومكفرّها الداعشي في آن واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً