اللاجئون والانقسام الأوروبي
مفتاح شعيب
تتضخم مشكلة اللاجئين في أوروبا لتصبح أزمة متعددة الأبعاد ومحط تجاذب عنيف بين دول القارة، فبعد أسابيع على إبداء المشاعر الإنسانية الفياضة واستقبال عشرات الآلاف من الهاربين من حروب الشرق الأوسط، يبدو أن صناع القرار في العواصم الغربية باتوا يتوخون مقاربات واقعية للتعامل مع هذه الظاهرة الآخذة في الاتساع.
بوادر هذه المقاربة الواقعية بدت من خلال بعض المخاوف الأمنية من تسلل تهديدات بين جحافل المهاجرين، وذلك بعد طرح أجهزة استخبارات شكوكاً قوية في أن بعض التنظيمات الإرهابية العاملة في سوريا والعراق تحديداً قد تكون أوفدت «فاتحين» في أثواب لاجئين إلى أوروبا بهدف زرع خلايا تنام إلى حين تأتيها الأوامر والإشارات لارتكاب أعمال إرهابية كتلك التي حدثت في السنوات الأخيرة. وهذه الفرضية أمنية بحتة ولا علاقة لها بادعاءات اليمين الأوروبي الذي يشن حملة متنامية ضد فكرة استضافة لاجئين، والاستعاضة عنها ببناء مخيمات في شمال إفريقيا ودول أخرى بمساعدة أوروبية، مثلما اقترح ذلك الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ويوافقه في ذلك اليمين الأوروبي بمختلف ألوانه.
تدفق اللاجئين بكثافة غير مسبوقة بات يهدد الوحدة الأوروبية كما لم يهددها عامل آخر. فسياسات ما كان يعرف ببلدان أوروبا الشرقية تختلف عن مقاربات نظيراتها الغربية الأكثر غنى ورفاهاً، فالمجموعة الأولى ترفض مشاركة الثانية في تقاسم حصص المهاجرين، بل ممارسة إجراءات تعسفية في أماكن الاحتجاز بعضها يرقى إلى الإذلال الممنهج مثلما ظهر في الصور المسربة عن تفريق لاجئين بالغازات والهراوات وإطعام آخرين بطرق مهينة ومد الجدران الإلكترونية والأسلاك الشائكة على الحدود. وحتى بين الكتلة الشرقية، فقد وصلت الخلافات حول استقبال هؤلاء الوافدين إلى حد الملاسنات بين الحكومات، فالمجر، التي تتخذ موقفاً متشدداً، تتهم كرواتيا المجاورة بالكذب واتخذت إجراءات تصعيدية بأن احتجزت أفراد شرطة كرواتيين وجردتهم من أسلحتهم لدى مصاحبتهم لمهاجرين. ويؤكد هذا السلوك أن الخلاف حول هذه القضية يتجاوز الجدل السياسي إلى مستويات سيادية وهو طريق قد يؤدي إلى حد التصعيد المسلح إذا تفاقمت الأمور ولم تحل بالقنوات السياسية.
أوروبا تنقسم حالياً إلى تيارات متباينة، وجاءت أزمة المهاجرين لتعمق ذلك الانقسام الموجود أصلاً بسبب الخلافات حول الأزمات المالية ومواجهة الإرهاب والحرب الباردة الجديدة بين روسيا والغرب. فيبدو أن محاولات تلميع الصورة بإظهار أن قيم الاتحاد الأوروبي المفرطة في الإنسانية لم تصمد طويلاً أمام المعطيات الجديدة وتضارب المصالح والأجندات السياسية. وبعيداً عن المكابرة، تشترك كل الدول الأوروبية، كبيرها وصغيرها، في الشعور بأن تدفق مئات الآلاف من الوافدين الجدد يشكل تحدياً تاريخياً أمام القارة وأمام استمرار الاتحاد الأوروبي كأعظم تكتل دولي يجمع أغنى قارة في العالم.
حكاية أوروبا واللاجئين قد لا تعرف نهاية سعيدة، إذا استمرت أسباب الظاهرة في التضخم، فالكل يحمِّل الحرب الأهلية الدائرة في سوريا وانتشار الإرهاب والتدهور الاقتصادي والاجتماعي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مسؤولية هذا الوضع، ولكن أوروبا الإنسانية إلى أبعد الحدود ساهمت في هذه الكوارث، فبعض دولها، إن لم يكن كلها، ضلعت بالتحالف مع السياسة الأمريكية في تفجير حروب المنطقة وصناعة «الثورات» الهدامة حتى اكتوت بنيرانها وها هي المواقف تبدأ في التغير بأشكال دراماتيكية في العديد من الملفات، والفترة المقبلة ستكون حبلى بالتصريحات والصدمات تمهيداً لمعادلات جديدة لن تسر كثيرين.
المصدر: الخليج الاماراتية